وجعلها له ذلولاً، وسخر له ما فيها، ليديرها، ويصرفها، وينتفع بما حوله مما خلق له، ذلك العقل وتلك الجوهرة، هو الفارق بين الإنسان والحيوان، هو الفارق بين السوي الحكيم وبين المجنون، هذا الجهاز الصغير الدقيق المعجز هو صندوق المعلومات وخازنها، منذ كان الإنسان في بطن أمه، وجعل له ربه السمع والبصر والحواس والفؤاد، هذا الجهاز هو قائد الجوارح كلها، وأمير الجسم والأعضاء، لا يتحرك جفن عين لعاقل إلا بإشارته، ولا يصدر عمل من الأعمال إلا عن أمره، إذا اختل ضاعت الحكمة، وإذا غشي وعمي عليه توقفت الأعضاء عن الحركة، بل عن الحس والشعور، ولقد خلق الله في الأرض ما ينفع الإنسان وما يضره، ليميز بعقله بين ما ينفع فيقبل عليه، ويفيد منه، وبين ما يضر، فيبتعد عنه، ويحذره، ويتحاشاه، نوع من أنواع الابتلاء والاختبار، ليميز الله الخبيث من الطيب، خلق الطعام والشراب اللذيذ النافع، وخلق السم القاتل، وكلما ارتقى الإنسان في الإنسانية بعد عما يضر، واستكثر مما ينفع، وفي الحياة الدنيا هموم ومشاكل وأحزان ومصائب، يقف العاقل حيالها موقف المعالج الخبير الصابر الحكيم، ويقف العاجز حيالها بالضعف والتخاذل ومحاولة الهروب منها، وكيف يهرب منها وهي في داخله؟ وفي سويداء عقله؟ إنه يحاول تغطية العقل، وتغطية الشعور، وتغطية الأحاسيس، بما عرفه من خمر أو حشيشة، وهو في ذلك لا يحل المشكلة، ولا يبعدها عن نفسه، ولا يخفف همومها، وآلامها، بل كل ما يفعله أنه يهرب من الإحساس بها بعض الوقت، ليضم إليها هموماً أخرى وأحزاناً أخرى بعد أن يفيق من السكر.

فهذا حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت الخمرة مباحة، والسكر مباحاً، يجتمع مع بعض الشباب من أقرانه، في بيت من بيوت أحدهم، فيستأجرون مغنية تغنيهم، على شرابهم، وتأخذ الخمرة برءوسهم، فيتمايل بعضهم على بعض، ويصيح بعضهم ببعض، ويعبث بعضهم بوجوه بعض، وتثيره المغنية بأبيات من شعر، مضمونها: يا حمزة يا بطل الأبطال، يا من اشتهر بالكرم، يا ابن الأكرمين، بالباب ناقتان سمينتان، نشتهي أن نأكل -مع شرابنا- من سنامهما وأكبادهما، فأين سيفك؟ وأين شهامتك؟ وأين جودك؟ فيخرج بسيفه، فيجتز سنامي الناقتين، ويبقر بطنهما، ويرجع للقوم بأكبادهما وسناميهما، ويرجع صاحب الناقتين، علي بن أبي طالب، الذي لا يملك غيرهما، ويرجوهما عوناً له على رزقه، يحملان الحطب الذي يجمعه ليبيعه، ليستعين به على وليمة زواجه بفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، يرجع بعد أن جمع الحطب ليأخذ ناقتيه، لتحملاه، فيجد الدماء تملأ مربطهما، وتقع عيناه على منظرهما الفظيع وقد بقرت بطونهما، فلا يملك دمعه الذي سال على خديه، ويسأل من تجمع من الناس حولهما: من فعل هذا؟ فيحكون له ما حصل، فيجري نحو بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، شاحب اللون، مرتعش البدن، فيقول له صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ ماذا بك يا علي؟ فيقول حصل كذا وكذا. الناقة التي أصابتني من غنائم بدر، والناقة التي ساعدتني بها من الفيء والخمس، فعل بهما حمزة كذا وكذا.

فقال صلى الله عليه وسلم: وأين حمزة الآن؟ قال في بيت يشرب الخمر مع الشاربين فأسرع صلى الله عليه وسلم إلى ردائه فلبسه، ثم خرج مع علي معهما زيد بن حارثة، حتى وصلوا إلى البيت الذي به حمزة، فاستأذن، فأذن له، فدخل متغيظاً يلوم حمزة ويعنفه، ظاناً أنه يعي، فيصلح ما أفسد، لكن حمزة كان بعيداً عن الوعي، التفت حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015