شعيرة من شعائر الإسلام، كهدي الحرم، الذي يقول الله فيه {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون* لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين} [الحج: 36، 37].
كان من السهل أن يأمر صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بأن يذبح له، وكم يكون مثل هذا الأمر حبيباً إلى نفوس أصحابه، كان من السهل أن يريح نفسه من جهد الذبح، وأن يحمي بدنه وثيابه من التعرض لدم الذبيحة، ولكنه صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في التواضع، وفي مباشرة أموره بنفسه، وبخاصة إذا كان فيها جانب من جوانب الشرع، ليثاب على مباشرته، وليعلم أمته، لقد طلب المدية من عائشة -رضي الله عنها- لتشاركه في أجر الذبح، فلما جاءته بها قال لها: اشحذيها، وحدديها، وسنيها بحجر، لتقطع سريعاً، فتخفف على الذبيحة الذبح وآلامه، وجاء بالكبش، فأضجعه على جانبه الأيسر، ووضع قدمه على صفحة عنقه، وأمسك السكين بيمينه، ورأس الكبش بشماله، ثم سمى وكبر، وقال: اللهم تقبل مني، ثم ذبح.
ولقد كانت المدية -أو السكين- آلة الذبح، وكانت معروفة شائعة، لكن القوم على سفر كثير، وعرضة لعدم تيسر السكين في أسفارهم وغزواتهم، كما هم عرضة لأن يغنموا إبلاً وغنماً، وتدفعهم الحاجة والجماعة إلى ذبحها، وما كانوا ليفعلوا شيئاً إلا بعد أن يتبينوا حكمه الشرعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل سائلهم: يا رسول الله، إنا سنخرج معك غداً للغزو، وقد لا تتيسر لنا المدى، فبماذا نذبح غداً إذا لم نجد السكين المعتاد؟ قال صلى الله عليه وسلم: اذبحوا بأي محدد، كل ما أنهر الدم، وجرح الذبيحة في حلقها، وقطع حلقومها ومريئها وأوداجها فهو يحل لحمها، حديداً كان كالسيف وسن الرمح، أو حجراً، أو خشباً، أو زجاجاً، أو قشر قصب، أو خزفاً، أو نحاساً، لكن لا تذبحوا بالسن، لأنه عظم، ولا تذبحوا بالظفر، لأن الحبشة الكافرين يخنقون بأظفارهم الحيوان.
وخرج بهم صلى الله عليه وسلم في غزوة، وكان في آخر القوم، حماية لهم، وراعياً لضعيفهم، وطال بهم السفر، حتى نفد زادهم، وأصابتهم المجاعة، وغنمت مقدمة الجيش إبلاً وغنماً من الأعداء، فنزلوا منزلاً، وذبحوا منها، ووضعوها في قدرهم، وأوقدوا عليها نيرانهم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نيرانهم وقدورهم، فسألهم، فأخبروه، فغضب صلى الله عليه وسلم على فعلهم هذا، دون إذن منه، وهو معهم، فأمرهم بإكفاء القدور، وطرح ما فيها من المرق واللحم الذي لم ينضج بعد، فاستجابوا فوراً، وأكفئت القدور.
وساروا بما غنموا من الإبل والغنم، فشرد بعير ونفر نفور الوحش، وجروا خلفه، فلم يدركوه، وكان الخيل معهم قليلاً، حتى يمكنهم الإحاطة به ومحاصرته، فأدركه فارس بفرسه، فأرسل عليه سهماً، جرحه، وأعجزه، وأوقعه على الأرض، يجري دمه، فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: كلوه، فالحيوان المستأنس إذا توحش شأنه شأن المتوحش، يحل أكله بجرحه حيث قدر عليه، في أي مكان من جسمه، وإذا حصل لكم مثل هذا مستقبلاً، فافعلوا به مثل ما فعلتم اليوم، إن لهذه الإبل صدمات تصبح بها متوحشة كالوحش الأصلي، وإن المستأنس من الحيوان قد يصاب في مخه، فيبدو وحشاً، فعاملوها في هذه الحالة معاملة الوحوش، في صيدها، وحل لحمها.