وأسفا وحسرة، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، فهذا ابن أم مكتوم الأعمى، وقد سمع قوله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} يتحسر ويقول: كيف بمن لا يستطيع لأنه أعمى؟ فنزل قوله تعالى {غير أولي الضرر} فرفع عنهم الحرج، وعن كل أصحاب الأعذار.
وها هم القراء، وكانوا سبعين من خيرة علماء الأمة، بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجد، ليعلموهم القرآن والشريعة، فيغدر بهم أهل البلاد، ويقتلونهم جميعا، فيستقبلون الموت بنفس مؤمنة مطمئنة، ويستعذبونه في سبيل الله، ويقولون: من يبلغ نبينا أننا لقينا ربنا؟ فرضي عنا؟ ورضينا عنه؟ فيبعث الله جبريل -عليه السلام- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيبلغه الخبر، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم القراء استشهدوا جميعا، ولقوا ربهم، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وأخذ يدعو على القتلة أربعين يوما في القنوت في صلاة الصبح.
وهذا أنس بن النضر، وقد غاب عن غزوة بدر لعذر، يتأسف على ما فاته من خير الجهاد، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتذر إلى الله عن غيبتي يوم بدر، وأقسم أنني لن أغيب بعدها عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيراني الله شجاعا مقداما عند لقاء الكفار، فيحضر غزوة أحد، ويرى المسلمين منهزمين، يفرون نحو الشعاب، فيتبرأ من المشركين، ويعتذر إلى الله عن الفارين، ويقدم بسيفه على المشركين، صارخا: إني أجد ريح الجنة في وديان جبل أحد، ويضرب في المشركين يمينا وشمالا، لا يحس جروحه التي أصابته، ولا توقفه ضربات السيف، ولا طعنات الرماح، ولا رميات السهام، ولا تمثيل الأعداء به، غيظا من نيله منهم، فيوجد في جسده بعد استشهاده بضعة وثمانون جرحا. رضي الله عنه وعن المجاهدين أجمعين.
-[المباحث العربية]-
(عن البراء قال: في هذه الآية {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، إلخ) أي قال البراء بخصوص هذه الآية: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية كما هي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كاتبه، فأمره أن يكتبها.
(فجاء بكتف يكتبها) أي فجاء زيد، ومعه دواة وقلم وكتف ليكتب فيه، والكتف بفتح الكاف وكسر التاء، وبكسر الكاف وسكون التاء، عظم عريض خلف المنكب، يستخدم من الحيوانات بعد نزع اللحم عنها لوحا يكتب عليه في الزمن الماضي.
(فشكا إليه ابن أم مكتوم ضرارته) أي عماه، قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "ضرارته" بالضاء، وحكى صاحب المشارق والمطالع عن بعض الرواة أنه ضبط "ضررا به" والصواب الأول. اهـ. وعند البخاري عن زيد بن ثابت "فجاء ابن أم مكتوم وهو يملها علي" -بضم الياء وكسر الميم وتشديد اللام، يقال: يملي، ويمل، ويملل بمعنى- "قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت" وفي رواية أخرى له "وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم" أي فانتقل من خلفه إلى أمامه