بين الناس بناء على البينة واليمين وقد أمر أن يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" ولو شاء الله لأطلعه صلى الله عليه وسلم على باطن أمر الخصمين فحكم بالواقع واليقين من غير حاجة إلى شهادة أو يمين لكن لما أمر الله تعالى أمته باتباعه والإقتداء به في أقواله وأفعاله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه فأجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصح الاقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة التي سيحكم بها الحكام من بعده من غير نظر إلى الباطن والواقع.
قال النووي: فإن قيل: هذا الحديث ظاهره أنه قد يقع منه صلى الله عليه وسلم في الظاهر مخالف الباطن وقد اتفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ في الأحكام؟ فالجواب أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصوليين لأن مراد الأصوليين فيما حكم فيه باجتهاده فهل يجوز أن يقع فيه الخطأ؟ فيه خلاف الأكثرون على جوازه ومنهم من منعه لكن الذين جوزوه قالوا: لا يقر على إمضائه بل يعلمه الله تعالى به ويتداركه وأما الذي في الحديث فمعناه إذا حكم بغير اجتهاد كما إذا حكم بالبينة واليمين فهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلا فإن كانا شاهدي زور فالتقصير منهما وممن ساعدهما وأما الحكم فلا حيلة له في ذلك ولا عيب عليه بسببه بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع. اهـ.
وزاد بعضهم الأمر إيضاحا فقال: في قصة ابن وليدة زمعة السابقة في باب "الولد للفراش" حكم صلى الله عليه وسلم بالولد لعبد بن زمعة وألحقه بزمعة بناء على قاعدة: الولد للفراش فلما كان الوالد شبيها بعتبة وليس شبيها بزمعة قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه أي احتياطا أنه ليس أخاها وليس ابنا لزمعة فحكم بالظاهر واحتاط للباطن.
وفي قصة المتلاعنين لما لاعنت المرأة فرق بينها وبين زوجها ولم يبطل لعانها ولم يحكم عليها بالزنا مع أن ابنها جاء مشبها من رميت به ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "لولا الإيمان (أي بحكم الله وقضاء الله والاحتكام إلى اللعان) لكان لي ولها شأن".
ومنع قوم وقوع الخطأ في اجتهاده وقالوا: لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه حتى قال الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] وقالوا: إن الإجماع معصوم من الخطأ فالرسول أولى بذلك لعلو رتبته.
قال الحافظ ابن حجر: والجواب عن الأول: أن الأمر إذا استلزم إيقاع الخطأ لا محذور فيه لأنه موجود في حق المقلدين فإنهم مأمورون باتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ والجواب عن