أنه استرد عطيته، بناء على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلمت عمرة بحكم الله، وهي تقول في نفسها: ليتني رضيت بالهدية دون إشهاد، وليتني لم أطمع، وقد علمت أن الطمع يذهب بما جمع.
-[المباحث العربية]-
(عن النعمان بن بشير) "بشير" بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس - بضم الجيم وتخفيف اللام - الخزرجي، صحابي مشهور، من أهل بدر، وشهد غيرها، مات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، ويقال: أنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار.
(إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الخامسة "فأخذ أبي بيدي، وأنا يومئذ غلام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الثامنة "انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" ويجمع بين الروايتين بأنه أخذه بيده، فمشى معه بعض الطريق، وحمله في بعضها، لصغر سنه، أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل.
(فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي) "نحلت" بفتح الحاء وسكون اللام، يقال: نحل ينحل، من باب ذهب يذهب، والنحلة بكسر النون وسكون الحاء العطية بغير عوض، وهي المرادة بالصدقة في قوله في الرواية الرابعة "تصدق علي أبي ببعض ماله" وفي الرواية الثالثة "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الغلام؟ قال: أعطانيه أبي" فكأنهما أخذا الغلام معهما، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عنه، وأجيب من النعمان، ثم حكى بشير قصته.
وواضح من هذا أن النحلة كانت غلامًا، لكن وقع عند ابن حبان والطبراني عن النعمان بن بشير أنه خطب بالكوفة فقال: إن والدي بشير بن سعد أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام، وإني سميته النعمان، وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال هو لي، وأنها قالت: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفيه قوله صلى الله عليه وسلم "لا أشهد على جور" وجمع ابن حبان بين الروايتين بالحمل على وقعتين، إحداهما عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديقة، والأخرى بعد أن كبر النعمان، وكانت العطية عبدًا. قال الحافظ ابن حجر: وهو جمع لا بأس به، إلا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير مع جلالته الحكم في المسألة، حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيستشهده على العطية الثانية، بعد أن قال له في الأولى "لا أشهد على جور" وجوز ابن حبان أن يكون بشير ظن نسخ الحكم، وقال غيره: يحتمل أن يكون بشير حمل الأمر الأول على كراهة التنزيه، أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد، لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد.
قال الحافظ ابن حجر: ثم ظهر لي وجه آخر من الجمع، يسلم من هذا الخدش، ولا يحتاج إلى جواب، وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئًا، يخصه به، وهبه الحديقة المذكورة، تطييبًا لخاطرها، ثم بدا له فارتجعها، لأنه لم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك، فماطلها