والمتحصل من هذا الخلاف أقوال:
الأول: أنه ليس طلاقًا أصلاً، وليس التخيير بين الطلاق والإقامة عنده، بل هو تخيير بين الدنيا والآخرة، فإن اختارت الدنيا كان عليه أن يطلقها، بدليل قوله (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً) وإن اختارته - كما حصل من أمهات المؤمنين فلا شيء. قال الحافظ ابن حجر: ظاهر هذه الآية أن ذلك بمجرده لا يكون طلاقًا، بل لا بد من إنشاء الزوج الطلاق، لأن فيها (فتعالين أمتعكن وأسرحكن) أي بعد الاختيار، وهذه دلالة منطوق، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم. اهـ. وبهذا يرد على القرطبي إذ قال في "المفهم" يؤخذ من قول عائشة "فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقًا" أنها إذا اختارت نفسها كان نفس ذلك الاختيار طلاقًا من غير احتياج إلى النطق بلفظ يدل على الطلاق.
الثاني: أن مثل هذا التخيير تمليك للزوجة أمر نفسها، أو تفويض وتوكيل لها أن تطلق نفسها، فإن اختارته فلا شيء، وإن اختارت نفسها فطلقة رجعية. وهذا مروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما.
الثالث: كالثاني، لكن إن اختارت نفسها فطلقة بائنة، لأنها لو كانت رجعية لبقيت في أسر الزوج. وهذا مروي عن عمر وابن مسعود أيضًا، وبه أخذ أبو حنيفة.
الرابع: كالثاني أيضًا، لكن إن اختارت نفسها يقع ثلاثًا، وهو مروي عن زيد بن ثابت، وأخذ به مالك، واحتج بعض أتباعه بأن معنى الخيار بت أحد الأمرين، إما الأخذ وإما الترك.
وهذه المذاهب الثلاثة تتفق في أنها لو اختارت زوجها فلا شيء، ويؤيدها حديث عائشة، وحديث مسروق [رواياتنا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة]، ويؤيدها من حيث المعنى أن التخيير ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقًا لاتحدا، فدل على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق، واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة.
الخامس: أنها إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، لأن الزوج بهذا التفويض قد فك القيد والرباط الذي عقده، وهذا القول حكاه الترمذي عن علي رضي الله عنه، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان قال: "كنا جلوساً عند علي، فسئل عن الخيار، فقال: سألني عنه عمر. فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة بائن، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية. قال: ليس كما قلت. إن اختارت زوجها فلا شيء. قال: فلم أجد بداً من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف.
السادس: إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وهذا مروي عن زيد بن ثابت.
السابع: قال الشافعي: التخيير كناية، فإذا خير الزوج امرأته، وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه، وبين أن تستمر في عصمته، فاختارت نفسها، وأرادت بذلك الطلاق طلقت، فلو قالت: لم أرد باختيار نفسي الطلاق صدقت. قال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزمًا.