تارة بوقوعها في المكان المفضل، كالمسجد الحرام، حيث جعل الصلاة فيه بمائة ألف صلاة تقع في غيره من المساجد، خلا مسجد المدينة والمسجد الأقصى، وتارة بوقوعها في الزمان المفضل، كشهر رمضان، فمن تطوع بخصلة فيه كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وتارة بهيئة العبادة، فصلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة.
فيا سعادة من اغتنم مواسم الفضل فأحسن الطاعة، وأكثر من العبادة، ويا تعاسة من ضيع الفرص، وتكاسل عن ربح التجارة.
وخير الفرص وأعلاها ليلة القدر {وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} [القدر: 2، 5].
"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" قيام ليلة واحدة يعدل قيام ألف شهر. وطاعة وذكر ودعاء وقراءة وصلاة في ليلة واحدة يعدل بل يزيد على طاعة وذكر ودعاء وقراءة ثلاث وثمانين سنة، فأين هي هذه الليلة؟ .
إن الله تعالى يقول: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185] ويقول: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فكأن المفهوم من الآيتين أن ليلة القدر في رمضان، وهكذا فهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، فاعتكف في خيمة صغيرة بمسجده بالمدينة عشر ليال من رمضان، هي العشر الأولى. واعتكف معه كثير من صحابته، كل في معتكف صغير يضع فيه متاعه وزاده، ولا يخرج من المسجد إلا لضرورة، وكل وقتهم في ليلهم ونهارهم ذكر وقراءة وصلاة ودعاء، يلتمسون ليلة القدر، ثم بدا له صلى الله عليه وسلم في العام الآخر أن يعتكف العشر الأوسط، يلتمس ليلة القدر، ويقصد بذلك استيعاب الشهر تدريجياً، ليقع له ولهم ليلة القدر التي لا تخرج عن ليالي الشهر، واعتكف معه أصحابه العشر الوسطى، حتى إذا كان صبيحة الليلة المتممة للعشرين خرج من معتكفه، وأمر بخيمته أن تزال، فطويت، وطوى الصحابة معتكفهم.
واستعد الجميع لمغادرة المسجد إلى ديارهم، وما كانوا ليخرجوا إلا إذا خرج رسولهم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج، بل أمر بإعادة بناء خيمته ثانية. ثم دخلها وعلى بابها يتدلى حصير، ماذا حدث؟ بعد لحظات نحى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصير، وفتح الباب، ونادى أصحابه، فاجتمعوا إليه. واقتربوا منه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال لهم: اعتكفت العشر الأول ألتمس ليلة القدر، ثم اعتكفت العشر التي في وسط الشهر، ألتمس ليلة القدر، وقد أريتها في منامي بالأمس، وحددت لي ليلتها، وأيقظني بعض أهلي.
[وكانت بيوت أزواجه تفتح في المسجد، وكانت خيمته بجوار أحد أبوابها، لدرجة أنه كان يخرج رأسه من الخيمة، فتصبح في البيت، فتغسلها زوجه] وخرجت لأخبركم بعين ليلتها، فوجدت فلاناً وفلاناً يتخاصمان، فشغلت بالإصلاح بينهما، فنسيتها، لكني رأيتني ليلتها أسجد في ماء وطين،