لماذا هذه الكرامة؟ وما فضل الصوم على غيره من العبادات؟ هل لأنه لا يقع إلا لله وحده فلم يتعبد به أحد لصنم؟ هل لأنه لا يظهر كعبادة، فهو بين العبد وربه، هل لأنه صفة من صفات ملائكة الله، فهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون؟ هل لأنه محاربة شاقة لشهوات البطن والفرج أقوى عوامل ونوازع الشر في الإنسان؟ هل لكل ذلك ولغير ذلك؟ وإذا كان الصوم بهذه الفضيلة فكيف نصونه من المؤثرات الضارة بجزائه. هنا يصف لنا الحديث الشريف وسائل الوقاية "إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث" ولا يفحش في قول أو فعل -"ولا يجهل"- ولا يفعل فعل الجاهلين "ولا يسخب" ولا يرفع صوته بفظاظة، "فإن سابه أحد أو شاتمه أو قاتله" فلا يرد عليه بالمثل، وليضبط أعصابه، وليكظم غيظه "فليقل" في نفسه كيداً لشيطانه وبلسانه ردعاً لخصمه "إني صائم" فلن أرد عليك لئلا أعكر صومي "إني صائم" سأكظم غيظي وأعفو عنك لأنال الأجر ومثوبة الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس "إني صائم" وسأقابل الإساءة بالإحسان لأن الله يحب المحسنين، وهكذا يمسك الصائم عن المحرمات يمسك جوارحه به، يمسك عن إرادة الشر نفسه، فينقي صيامه مما يكدر أجره وثوابه.

ولقد عرف الصحابة فضل الصوم من معلمهم الأكبر ورسولهم الأعظم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يصوم حتى يقول من حوله لكثرة ما يصوم: إنه لا يفطر، عرفوا أنه كان يصبح صائماً، فإذا وجد عند أهله طعاماً أفطر، وإن لم يجد ظل صائماً، نعم لم يصم صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً سوى رمضان، ولم يفطر شهراً كاملاً من أشهر السنة دون صيام، وكان يكثر الصوم في شعبان، حتى يظن أنه صامه كله.

نعم عرف الصحابة فضل الصوم فأكثروا منه، لكن أفراداً بالغوا في عبادتهم، وعلى رأسهم عبد الله بن عمرو بن العاص الذي حلف أن يصوم العام كله لا يفطر إلا العيدين، وأن يقوم الليل كله لا ينام، وأن يقرأ القرآن كله كل ليلة. وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، شاع خبره فأخبر به، وجاء أبوه عمرو بن العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو ابنه عبد الله. يقول: زوجته امرأة ذات حسب ونسب فعضلها، يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يؤدي حقها، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: أنت الذي تقول وتحلف وتفعل كذا وكذا وكذا. قال: نعم يا رسول الله، وما أردت إلا الخير. قال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل إن لبدنك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً. صم وأفطر، وقم ونم، واقرأ القرآن في شهر. إن أفضل العمل عند الله أدومه، وإنه قد يطول بك العمر فتكبر فتعجز عن أداء ما التزمت. ألم تر إلى فلان كان يقوم الليل فترك قيامه، فياليته لم يقم. لا تشددوا على أنفسكم. إن الله لا يمل حتى تملوا. وظن عبد الله أن النصيحة قصد بها الإشفاق والتيسير، وأن العبادة خير مهما بلغت، فاستمر، فعلم صلى الله عليه وسلم، فزاره في بيته، وكان عبد الله زاهداً حتى في فراش بيته، فلم يجد ما يفرشه للرسول صلى الله عليه وسلم سوى وسادة من جلد حشوها ليف، فقدمها للرسول صلى الله عليه وسلم ليجلس عليها، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم متكأ بينه وبينه، ثم عاتبه أو حاسبه. قال: لقد أخبرت أنك تصوم النهار، وتقوم الليل. قال: نعم يا رسول الله إني أفعل ذلك. قال: إنك إذا فعلت ذلك ضعفت عينك، وملت نفسك وقل نشاطك. صم من كل شهر ثلاثة أيام ولك أجر الشهر، قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صم من الشهر خمساً. قال: إني أطيق أكثر من ذلك؟ قال: صم عشراً. قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صم يوماً وأفطر يوماً. قال: إني

طور بواسطة نورين ميديا © 2015