من هذا قول من فسر "يطعمني ربي ويسقيني" أي يشغلني بالتفكير في عظمته والتملي بمشاهدته، والتغذي بمعارفه، وقرة العين بمحبته، والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب، قال ابن القيم: قد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني، ولا سيما الفرح المسرور بمطلوبه، الذي قرت عينه بمحبوبه. اهـ.
وهذه الحالة مشاهدة فيمن يشغله شاغل مهم عن الأكل.
وقال الجمهور: قوله "يطعمني ويسقيني"، مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب، ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوي على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس فالجوع والعطش يحصلان، لكن الإحساس بهما، أو أثرهما منعدم.
وبعضهم يقول: المعنى أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب، فلا يحس بجوع ولا عطش، بل لا يجد جوعاً ولا عطشاً، ويضعف هذا القول أنه ينافي حال الصائم، ويفوت المقصود من الصيام والوصال، لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها، قال القرطبي، ويبعده أيضاً النظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط على بطنه الحجارة من الجوع. والله أعلم.
-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]-
1 - استواء المكلفين في الأحكام، وأن كل حكم ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته إلا ما استثنى بدليل. قاله الحافظ ابن حجر.
2 - وفيها جواز معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستثنى بسر المخالفة.
3 - وفيها الاستكشاف عن حكمة النهي.
4 - وفيها ثبوت خصائصه صلى الله عليه وسلم، وأن عموم قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. مخصوص.
5 - وفيها أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته، ويبادرون إلى الائتساء به، إلا فيما نهاهم عنه.
6 - وفيها أن خصائصه لا يتأسى به في جميعها.
7 - وفيها بيان قدرة الله تعالى على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر.
8 - وفيها النهي عن التشدد في الدين والتكلف والحث على اليسر وما يطيق المسلم.
9 - وفيها شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته، ورحمته بهم.
10 - وفيها تعليل الحكم الغريب لتستريح نفس المشتبه.
والله أعلم