وبعضهم يجيزه مطلقاً على أساس أن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويجتهد في فهمه، ويعزم على فعله إذا اتضح المراد منه.
وبعضهم يفصل، فيجيز تأخير بيان المجمل دون العام، وبعضهم يعكس.
وقال بعض العلماء: الخطاب المحتاج إلى بيان ضربان: أحدهما ما له ظاهر، وقد استعمل في خلافه [فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه سيؤدي إلى العمل بغير مراد الشرع] والثاني ما لا ظاهر له، فقال طائفة من الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية: يجوز تأخيره عن وقت الخطاب [ليجتهد المخاطب في فهمه، ويعزم على فعله إذا اتضح مراده] ومن هنا قال عياض: يجب التوقف عن الألفاظ المشتركة، وطلب بيان المراد منها، وأنها لا تحمل على أظهر وجوهها وأكثر استعمالاتها إلا عند عدم البيان. اهـ.
وظاهر الرواية الخامسة والسادسة أن أول أذان ابن أم مكتوم كان علامة للكف، وأن الصائم له أن يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر الصادق وجب الكف، وهذا واضح من الآية والأحاديث الصحيحة، لكن خلافاً وقع في: هل يحرم الأكل والشرب بطلوع الفجر الصادق؟ أو بالعلم بطلوعه وتبينه تمسكاً بظاهر الآية {حتى يتبين لكم ... } الجمهور على الثاني، وأنه لو أكل ظاناً أن الفجر لم يطلع لم يفسد صومه، لأن الآية دلت على الإباحة إلى أن يحصل التبيين، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: "أحل الله لك الأكل والشرب ما شككت"، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قوله "كل ما شككت حتى لا تشك". وقد نقل بعضهم الإجماع على أن غاية إباحة الأكل والشرب طلوع الفجر الصادق أو تبين طلوعه، لكن هذا النقل غير مسلم، وهو متعقب، فهناك من يوجب الإمساك جزءاً من الليل قبل طلوع الفجر بناء على وجوب مقدمة الواجب، وهناك من أباح الأكل والشرب إلى أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت، قال الحافظ ابن حجر: وذهب جماعة من الصحابة -وقال به الأعمش من التابعين وصاحبه أبو بكر بن عياش- إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر، فروى سعيد بن منصور عن حذيفة قال: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو والله النهار غير أن الشمس لم تطلع" وأخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن طريق حذيفة بطرق صحيحة، وروي عن الأعمش أنه قال: "لولا الشهوة لصليت الغداة ثم تسحرت" قال إسحق: هؤلاء رأوا جواز الأكل بعد طلوع الفجر المعترض، حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل. قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني، ولا أرى عليه قضاء ولا كفارة. انتهى بتصرف من فتح الباري.
هذا. وإن مواقيت الصلاة المعلنة في أيامنا تحدد -بناء على علم دقيق- لحظات طلوع الفجر الصادق، فتعلنه موعداً للأذان الثاني للفجر، وعند بدايته يجب الكف عن الأكل والشرب، ويدخل وقت الصبح ومن سمع أول الأذان وفي فمه طعام أو شراب قذفه وتمضمض وصيامه صحيح؛ هذا ما أستريح إليه، وأدين الله عليه. والله أعلم.