وأولاً وأخيراً الناس ملزمون بحكم الحاكم، والحاكم مسئول أمام الله عن اجتهاده وحكمه، فإن استقر عنده صحة شهادة الشاهد المثبت حكم بثبوت الهلال، وإن نفاه أهل الحساب، وإن استقر عنده صحة إثبات الحساب لوجود الهلال حكم بثبوته وإن نفاه المتراءون، والأمر في استقرار النفي عنده كذلك.
وحكم الحاكم واجب الطاعة في حق غير الرائي وفي حق غير الحاسب باتفاق العلماء، أما الرائي والحاسب فيلزمان بالعمل بعلمهما. والله أعلم.
الشعبة الثانية -اختلاف المطالع: والرواية الثالثة والعشرون صريحة في أن الصحابة اعتمدوا وعملوا باختلاف المطالع، وأن لكل إقليم مطلعه ورؤيته، فهي إذ تحكي أن معاوية وأهل الشام صاموا يوم الجمعة على أنه أول رمضان، بناء على رؤيتهم الهلال، وأن أهل المدينة صاموا يوم السبت على أنه أول رمضان، بناء على رؤيتهم، وأن ابن عباس قرر أن لأهل المدينة رؤيتهم، وحين قيل له: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ رد الكلام على رؤية أهل المدينة، وقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللعلماء في هذه المسألة وجوه:
الأول: إذا رأوا هلال رمضان في بلد لزم الصوم أهل كل بلد يوافق الرؤيا في المطلع أو يسبقه، دون البلاد التي تتأخر عنه في المطلع، وإنما لزم من سبقه لأن خفاءه عنهم كان بعارض حتما، وإلى هذا ذهب جمهور الشافعية. قال النووي: وهذا أصح الآراء، ووجهه الماوردي بقوله: إن الطوالع والغروب قد تختلف لاختلاف البلدان، وإنما خوطب كل قوم بمطلعهم ومغربهم، ألا ترى الفجر قد يتقدم طلوعه في بلد ويتأخر في بلد آخر؟ وكذلك الشمس قد يتعجل غروبها في بلد ويتأخر في بلد آخر، ثم كل بلد يعتبر طلوع فجره وغروب شمسه في حق أهله، فكذلك الهلال. اهـ.
الوجه الثاني: إذا رؤي هلال رمضان في بلد لزم الصوم أهل إقليم بلد الرؤية، دون غيرهم، لأن اللزوم يكون بحكم القاضي بناء على شهادة عدل أو عدلين.
الوجه الثالث: إذا رؤي هلال رمضان في بلد لزم الصوم أهل البلاد التي تقع منها دون مسافة القصر. قاله جماعة من الشافعية منهم الفوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون من الخارسانيين، ووجهوه بأن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وإلى تحكيم المنجمين، وقواعد الشرع تأبى ذلك، فوجب اعتبار مسافة القصر التي علق بها الشرع كثيراً من الأحكام.
قال النووي: وهذا ضعيف، لأن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر فالصحيح اعتبار المطالع.
الوجه الرابع: إذا رؤي هلال رمضان في بلد لا يلزم الصوم غير أهل بلد الرؤية، نقله ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحق بن راهويه.
الوجه الخامس: إذا رؤي هلال رمضان في بلد من بلاد المسلمين لزم الصوم جميع المسلمين في الأرض، لأن فرض الصوم في رمضان لا يختلف باختلاف البلاد، وقد ثبت رمضان.