(فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أي فإن لم تكن رائيا لربك على سبيل الحقيقة فاستشعر أنه يراك ومطلع عليك ومراقب أحوالك. وقد أول بعض الصوفية الحديث وأخذوا منه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وقدروا المعنى: فإن لم تكن، أي فإن لم تصر شيئا وفنيت نفسك حتى كأنك لست بموجود فإنك حينئذ تراه، فعلى هذا التأويل فعل "تكن" تام لا يحتاج إلى خبر و"تراه" في محل جواب الشرط، وقد هاجم الحافظ ابن حجر هذا التأويل بشدة فقال: أثبت قائل هذا جهله باللغة العربية وجهل أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله "تراه" محذوف الألف، لأنه يصير مجزوما جوابا للشرط ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس، فلا يصار إليه إذ لا ضرورة هنا، وأيضا لو كان ما ادعاه صحيحا لكان قوله "فإنه يراك" ضائعا لأنه لا ارتباط له بما قبله، ويفسد هذا التأويل رواية أبي هريرة "فإنك إن لا تراه فإنه يراك" فسلط النفي على الرؤية. اهـ.
والمحقق في حملة الحافظ ابن حجر يجد للصوفية مخرجا من اعتراضاته الثلاثة: فقوله: لكان "تراه" محذوف الألف لأنه يصير مجزوما جوابا للشرط يمكن الجواب عنه بأن النحاة يجيزون رفع جواب الشرط على الاستئناف، قال ابن مالك:
وبعد ماض رفعك الجزا حسن
ورفعه بعد مضارع وهن
وتقدير الحديث على هذا فإن لم تكن وفنيت نفسك فأنت تراه.
وأما الاعتراض الثاني فيمكن للصوفية أن يقولوا: إن الفاء في "فإنه يراك" للتعليل والمراد من الرؤية لازمها وهو الرعاية، والمعنى: فإن فنيت نفسك تر ربك لأنك حينئذ في رعايته وهو يرعاك.
وأما اعتراضه الثالث فإنه يرد عليه ما أورده على الصوفية، فرواية أبي هريرة التي توجه النفي فيها إلى الرؤية ثابتة الألف رغم الجازم المتقدم، فلا مناص من تأويلها، وأفضل تخريج لها أن تحمل على حذف "تكن" ليصبح التقدير: إن لا تكن تراه، فتتطابق الروايتان بتوجه النفي إلى "تكن" لا إلى الرؤية.
وليس القصد من هذا الدفاع الانحياز إلى غلاة الصوفية والاقتناع برأيهم، وإنما القصد التحقيق العلمي والتخفيف من رميهم بالجهل، والاكتفاء بأن تأويلهم بعيد.
(فأخبرني عن الساعة) أي عن وقتها، بدليل رواية أبي هريرة "متى الساعة" و"متى تقوم الساعة" والمراد من الساعة القيامة، سميت بذلك لسرعة قيامها، أو لأنها عند الله سبحانه وتعالى كساعة وسأل عن وقتها ولم يسأل ابتداء عن أمارتها ليكون في جواب النبي صلى الله عليه وسلم زجر للناس عن السؤال عن وقتها، فقد أكثروا السؤال عنها كما قال الله تعالى {يسألك الناس عن الساعة} [الأحزاب 63] فلما أجيبوا بأنه لا يعلمها إلا الله وجب أن يكفوا عن السؤال عنها، ولو سأل جبريل عن أمارتها ابتداء لضاعت هذه الفائدة.