أزعجت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجسدت أمامه صورة أمته لو لم يتكافل أعضاؤها فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم غضباً وحزناً وأسفاً، كيف يوجد أمثال هؤلاء بين قوم قيل لهم: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} [الحجرات: 13]؟ كيف يقبل من آتاه الله مالاً أن يرى أخاه بهذه الصورة ثم لا يفيض عليه. إن الأب واحد، وإن الأم واحدة؛ وما رفع الله بعض الإخوة على بعض إلا ليحتاج كل إلى الآخر فتترابط المصالح، ويفيد كل طرف من الآخر.

إن الصورة التي بدا عليها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقلوب صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يشق عليهم رسول الله حين دعاهم للتصدق ولو بشق تمرة لأجابوا، ولكنه دعاهم للتصدق ببعض ما عندهم، صاحب الدنانير ببعض دنانيره، وصاحب الدراهم ببعض دراهمه، وصاحب الثياب ببعض ثيابه، وصاحب صاع البر من صاع بره ولو قبضة، وصاحب صاع التمر من صاع تمره ولو تمرة. بل ولو شق تمرة.

نعم كان الصحابة عند حسن الظن، تتابعوا بالعطاء، حتى تجمع كومان كبيران من طعام ونقود وثياب فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال النووي عن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها" .. إلخ: فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وتخصيص حديث: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة. قال: وقد سبق بيان هذا في كتاب صلاة الجمعة، وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة. اهـ.

إن الإصلاح للمجتمع واجب كل قادر عليه، ولقد قبل الله صدقة المتصدق على الغني، والمتصدق على زانية، والمتصدق على سارق، لأن في ذلك إصلاحاً لهم، فربما انكسف الغني واستحيا من نفسه، واعتبر بالمنفق عليه فأصلح من نفسه واقتدى، وربما كانت الزانية محتاجة إلى أجر زناها فتعف بالنفقة التي منحتها، وربما كان السارق يسرق ما يحتاجه، فبسد حاجته قد يقلع عن سرقته فيأمن الأغنياء على أموالهم.

قال النووي: في الحديث ثبوت الثواب في الصدقة وإن كان الآخذ فاسقاً وغنياً، ففي كل كبد رطبة أجر. قال: وهذا في صدقة التطوع، وأما الزكاة فلا يجزي دفعها إلى غني. اهـ.

فإن دفعها إلى غني وهو لا يعلم، ثم علم وجبت عليه الإعادة. لأنه لم يضع الزكاة موضعها، وأخطأ في اجتهاده، كما لو نسي الماء في رحله وتيمم لصلاة لم يجزه. وقال أبو حنيفة: تسقط عنه تلك الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة.

وفي الحديث أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، وفيه دليل على أن الله يجزي العبد على حسب نيته في الخير، وفيه اعتبار لمن تصدق عليه، ورجاء بأن يتحول عن الحال المذمومة إلى الحال الممدوحة، وفيه فضل صدقة السر، وفضل الإخلاص، وفيه استحباب إعادة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015