وقد عنى الإسلام بالفقراء أكثر من عنايته بالأغنياء، ونشر عليهم مظلة الرعاية بزكاة الأموال، نشر عليهم مظلة الرعاية في الأعياد، وفي الولائم والمناسبات، وفي سائر الأيام بالصدقات.
وشاءت الحكمة الإلهية أن تكون المظلة واجبة على القادرين في بعض الأحيان، ومندوبة ومستحبة على سبيل التطوع في البعض الآخر، ليصل الحق إلى الفقير عن طريق النفوس الشحيحة مرغمة ملزمة، مستجيبة لأمر ربها فتثاب رغم أنفها، وعن طريق نفوس سخية كريمة، فرحة بالإعطاء سعيدة بيدها العليا شاكرة فضل ربها، فيضاعف أجرها أضعافاً كثيرة، ويزاد في نعمائها لتزيد من عطائها.
إن فقر الفقير ليس لهوانه على الله، وإن غنى الغني ليس علامة على رضى الله عنه، وإنما الكل امتحان واختبار، الفقر اختبار، والغنى اختبار، صبر الفقير هو المطلوب، وشكر الغني هو المقصود، ليقول الفقير: اللهم لك الحمد في السراء والضراء. وليقول الغني: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} [النمل: 40].
وصدقة الفطر تختلف عن الزكاة المالية في تكليفها وغايتها، فهي قليلة المقدار، صاع من تمر أو حب عن كل فرد في العام، أربع حفنات من طعام، ما أخفها وما أعظم ثوابها، وهي واجبة على جميع المسلمين، وليست على الأغنياء منهم أو المكلفين، فهي واجبة على كل حر وعبد، عن كل ذكر وأنثى، عن كل صغير وكبير، من كان مكلفاً أخرج بنفسه وعن نفسه، ومن كان غير مكلف أخرج عنه وليه، وهي واجبة على كل من يملك قوته يوم العيد وليلته. وهل هناك من لا يملك قوت يومه؟ إن الفقراء يملكون قوت أيام بل شهور، إذن هي واجبة على الفقراء؟ وماذا في ذلك؟ ماذا في أن يأخذ الفقير الزكاة ويعطي الزكاة؟ .
ألم يقل الشاعر وهو يزهو ويفخر بمكارم خلاله:
يجود علينا الخيرون بمالهم
ونحن بمال الخيرين نجود
أليس في ذلك انعطاف كل مسلم على أخيه المسلم؟ أليس في ذلك وضع اليد في اليد وتماسك أيدي المسلمين؟ أليس هذا هو التعاون الكامل الذي تحكم به الإنسانية؟ إنها صدقة الفطر، إنها طهرة الصائم، إنها زكاة الفلاح، وصدق الله العظيم حيث يقول: {قد أفلح من تزكى* وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14، 15].
لقد حرص الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- على هذه الزكاة كل الحرص، بل حرصوا على مقاديرها بكل دقة، وقد رأى معاوية أن حفنتين من قمح جيد لم يكن موفوراً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى أنهما تعدلان أربع حفنات من شعير أو تمر فأفتى بذلك وهو خليفة، فعارضه أبو سعيد الخدري، وأصر على المساواة في الكيل وإن غلا الصنف، وقال قولته: هذا تقدير معاوية، أما أنا فسأظل أخرج صاعاً كاملاً أبداً ما حييت. رضي الله عنهم أجمعين، ورضى عنا معهم وهو أكرم الأكرمين.