أجل هذه النعم نعمة العلم والقرآن، ثم نعمة المال، وكل نعمة سلاح ذو حدين، إن استخدمت فيما يرضي الله وفيما أمر الله، وفيما وهبها الله من أجله كان فيها الخير كل الخير لصاحبها، وإن استغلت في نقيض ما شرعت له كانت وبالاً على صاحبها، ولذلك نرى سليمان عليه السلام حينما منح نعمة القدرة على الإتيان بعرش بلقيس قال: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} [النمل: 40]. نعم النعمة ابتلاء واختبار كالمحنة تمامًا، فصاحب القرآن الذي يقوم بقراءته وتدبره والعمل به ساعات الليل وساعات النهار هو في أجل نعمة يغبط عليها ويتمنى أهل الخير أن يعطوها، ومثاله كالأترجة طيب في نفسه ومنتفع في ذاته وطيب لغيره ونافع لمن حوله، وإن لم يحافظ عليه ولم يقرأه ولم يعمل بما فيه كان شرًا في نفسه، ووبالاً على غيره ومثله كالحنظلة طعمها مر وريحها خبيث، وكذلك الأموال سلاح ذو حدين، إن أدى حق اللَّه فيها وأنفقت في وجوه المعروف كانت خيرًا وفضلاً من اللَّه يؤتيه من يشاء، وغبط صاحبها وتمنى الصالحون أن يؤتوا مثلها، وإن أنفقت في الشر ولم يؤت حق اللَّه فيها حمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباه أصحابها.
ومع أن الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لكن القرآن والعلم يرفع من لم يرفعه نسبه إذا صانه صاحبه، وهكذا يرفع اللَّه بهذا الكتاب أقوامًا، أما إذا لم يصنه من تمكن منه، وأساء إليه من أعطيه فإنه لا ينفعه نسبه مهما كان حسيبًا، وهكذا يخفض اللَّه به آخرين، وكم من الموالي رفعهم الإسلام بالقرآن والعلم فوق أولى الحسب والنسب والجاه، وكم من ذوي الحسب والجاه القديم صاروا في الدرك الأسفل من النار لعنادهم كتاب اللَّه. نفعنا اللَّه به وأعاننا على حفظه وتلاوته وتدبره والعمل بما فيه.
-[المباحث العربية]-
(لا حسد إلا في اثنتين) الحسد: تمني زوال نعمة الغير، سواء مع تمنيها لنفسه أم لا. والغبطة: تمني مثل ما عند الغير من نعمة من غير تمني زوالها عنه، سواء تمني وطلب من الله بقاءها لصاحبها أو لم يطلب بقاءها.
والنفي في الحديث نفي انبغاء، وليس نفي وقوع، فهو واقع في عالمنا كثيرًا في غير الاثنتين، فالمعنى: لا ينبغي ولا يشرع ولا يحمد الحسد إلا في اثنتين. كذا قيل. والأولى إرادة الغبطة من الحسد مجازًا بتشبيه الغبطة بالحسد بجامع تمني النعمة غالبًا في كل، واستعير لفظ الحسد للغبطة، فالمراد لا غبطة مشروعة إلا في اثنتين، والقصر على هذا إضافي أو ادعائي، لأن الغبطة مشروعة ومستحبة في كل أعمال الخير والبر، ولكن لعظم فضلهما ادعى أن الخير كله فيهما.
وفي الرواية الثانية: "لا حسد إلا على اثنتين". وكلمة "على" تأتي بمعنى "في"، قال الحافظ ابن حجر: تقول: حسدته على كذا أي على وجود ذلك له، وأما حسده في كذا فمعناه حسدته في شأن كذا، وكأنها سببية. اهـ