وسواء كان ابتداء فرض الصلاة مثنى ثم زيد في الحضر ركعتان في الظهر والعصر والعشاء، كما تقول عائشة: أو كان ابتداء فرضها على ما هي عليه الآن وخففت وقصرت في السفر كما يقول الجمهور: فمما لا شك فيه أن هناك تخفيفًا على المسافر رحمة من الله تعالى به. لقد شرع الله على لسان نبيه صلاة الإتمام في الحضر وصلاة القصر في السفر. وبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته قولاً وعملاً، والأحاديث تروي أنه صلى الله عليه وسلم عند سفره وقبل خروجه من المدينة إلى مكة صلى الظهر أربعًا، ثم خرج فأدركته صلاة العصر عند ذي الحليفة على بعد ستة أميال من المدينة فصلى بالناس العصر ركعتين، وفي غزواته صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس قصرًا من حين يخرج إلى حين يعود وسار على طريقه خليفته الأول أبو بكر فكان يقصر في أسفاره، ثم سار على الطريقة نفسها خليفته الثاني عمر بن الخطاب فكان يقصر في جميع أسفاره، ثم سار على الطريقة نفسها الخليفة الثالث عثمان بن عفان ست أو ثماني سنين. ثم صلى بالناس بمنى الظهر أو العصر أربعاً ولما كان المستقر في نفوس المسلمين أن القصر أولى إن لم يكن واجبًا أخذًا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل صاحبيه.
وفعل عثمان في الصدر الأول من خلافته، لما كان المستقر في نفوسهم ذلك أخذ يسأل بعضهم بعضًا عن سر إتمام عثمان وحكم هذا الإتمام، وزاد الأمر إشكالاً أن عائشة هي الأخرى أتمت الصلاة الرباعية في السفر، فأخذ العامة يسألون الخاصة، وأصبح الخاصة يتلمسون الأعذار لخليفة المسلمين، وأمهم، فمن قائل: إنه تزوج بمكة فصار من أهلها واعتبر نفسه مقيمًا، ومن قائل: إن له أرضًا بمنى فيعتبر فيها مقيمًا ومن قائل إن كثرة الأعراب الذين رافقوه يجهلون فرض الصلاة فأراد أن يبين لهم أن فرضها أربع، ومن الناس من ظن أن القصر خاص بمواطن الخوف، فنفى عمر ذلك بأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجاب بأن القصر في السلم والحرب.
وأخذ الناس يرقبون أفعال علمائهم، فرأوا ابن عمر يقصر ولا يصلي نفلاً راتبًا فلما سئل قال: إن الله خفف على المسافر نصف فرضه فلا يشق على نفسه بالنوافل، وكان الصحابة في عهد عثمان يخشون الفتنة، ويخافون الخلاف والفرقة، فكان كثير من علمائهم إذا صلى مع عثمان أتم الصلاة معه، وإذا صلى وحده قصر صلاته.
وهكذا استقرت الشريعة بإجماع الأمة أن المسافر بشروط معينة له أن يقصر الصلاة الرباعية واثقًا من فضل الله وثوابه، وأن أجر الصلاة المقصورة في السفر لا يقل عن أجر الصلاة التامة فيه أو في الحضر، فالحمد لله الذي خفف عنا وعلم أن فينا ضعفًا، نسأله قبول صالح العمل، وغفران الذنوب، إنه ذو الفضل الواسع العظيم.
-[المباحث العربية]-
(فرضت الصلاة ركعتين ركعتين) الصلاة عام مخصوص، مراد به غير المغرب، أي الظهر والعصر والعشاء والفجر.