وإذا كان هذا مطلوباً في الصلاة التي هي مناجاة فإن الوضع نفسه يكون أشد طلباً حين الدعاء، فعلى المسلم أن لا يديم الجهر بالدعاء، فإنه لا يدعو أصم، ولكن يدعو سميعاً بصيراً، ولا يخفض صوته حتى لا يحرك لسانه ولا يسمع أذنه، فإن تحريك اللسان عبادة، وإن انشغال الأذنين بصوت التضرع والدعاء عبادة.
وعلى المسلم أن يكون في دعائه بين الأمرين، أن يرفع صوته بالدعاء في وقت لا شبهة للرياء فيه، ويخفض صوته في وقت تشوبه شائبة الرياء والسمعة.
وما أجمل قول الله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} [الأعراف: 205].
-[المباحث العربية]-
(ولا تجهر بصلاتك) ظاهره أن المراد بالصلاة هنا القراءة فيها، وهي جزء من أجزائها، فيكون من قبيل المجاز المرسل، من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أو مجاز بالحذف بتقدير مضاف، أي ولا تجهر بقراءة صلاتك.
وعلى فهم عائشة للآية وأن المراد من الصلاة الدعاء يكون المراد من الصلاة معناها اللغوي. وقيل: الصلاة على حقيقتها الشرعية، والمعني لا تصل صلاة رياء، ولا تدع الصلاة حياء، كذا قيل، وهو بعيد.
(ولا تخافت بها) المخافتة إسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم، وعليه يحمل قول ابن مسعود [لم يخافت من أسمع أذنيه] وخفت من باب ضرب.
(ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة) أي متخف بالدعوة مسر بها قبل الجهر بها.
(وابتغ بين ذلك سبيلا) أي اقصد بين الجهر والمخافتة، واتخذ هذا التوسط طريقاً وسنة.
-[فقه الحديث]-
أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان أبو بكر إذا صلى بالليل خفض صوته جداً، وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جداً. فقال عمر: يا أبا بكر، لو رفعت من صوتك شيئاً؟ وقال أبو بكر: يا عمر، لو خفضت من صوتك شيئاً؟ فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بأمرهما، فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهما فقال: يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئاً وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً.
وفي رواية: قيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي وقد عرف حاجتي. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان.