يقول: وفي الفتاوي البزازية من كتب الحنفية، قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم، يكفر؛ فهو يريد أن يسوق من كلام أئمة المذاهب، حتى لا يأتي إنسان يقول: أنتم حنابلة لذلك تقولون هذا الكلام، ونحن حنفية، فيأتي لهم بكلام الأحناف، حتى أنه قد استفاض في ذكر كلام الأحناف في هذه المسألة؛ لأن كثيراً من الناس في بلدان كثيرة يتبعون المذهب الحنفي، ويتبعون المذهب الشافعي وهكذا.
فهو يذكر لهم أن هذا كلام أئمة الأحناف في زمانهم وأنهم قد قالوا هذا الشيء.
فبعض الصوفية يقول: نحن قاعدون في مجلس وأرواح مشائخنا حاضرة معنا، وهذا كذب؛ لأن الله عز وجل يقبض هؤلاء الأموات، وإذا قبضهم لم يرسلهم سبحانه وتعالى حتى تقوم القيامة، فمن زعم أن الأرواح تحضر معهم فإنه يفتري على الله سبحانه، ويكذِّب بما ذكر الله سبحانه وتعالى.
كذلك في كتاب الشيخ صنع الله الحنفي أحد الأحناف وهو متأخر والظاهر أنه كان في الدولة العثمانية فهذه الألقاب كان ظهورها في عصر الدولة العثمانية، فالمقصد أن هذا من الأحناف وقد رأى الشرك الذي يصنعه كثير من الناس في البلاد، فقال في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، كأن يقول: إن الولي الفلاني يتصرف في حياته وبعد وفاته، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهمهم تنكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن لهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة، والقطب: هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور.
قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة.
يقصد المؤلف من كلامه أن البعض من هؤلاء -وهذا يوجد في كتب الصوفية- يطلقون على فلان لقب القطب أو قطب من الأقطاب، أي: ولي من الأولياء، والقطب هو الغوث، وعليه المدار، مثل قطب الرحى الذي هو الخشبة التي بين المحورين، أو هي الخشبة المحورية التي تدور حولها الطاحونة، فيقولون: إن هذا هو القطب الذي يدور حوله العالم.
فهذا القطب تفرد بهذا الشيء وحده، فأين الله سبحانه وتعالى؟ فقد نسبوا لغير الله التصرف في الكون بقولهم هذا، ويقولون: هؤلاء الأقطاب الأربعة في كل قطر من العالم فقد قسموا العالم أرباعاً، كل ربع يتصرف فيه قطب معين.
فإذا كان القطب هو الذي يتصرف فأين الله سبحانه وتعالى؟! وما الذي يصنعه الله سبحانه وتعالى؟! فهم يشركون بالله سبحانه من حيث يعلمون أو يجهلون.
يقول الشيخ هنا: لما فيه من روائح الشرك المحقق.
قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، أي: يكون في شق مخالف للشق الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مأخوذة من الخندق الذي يكون فيه المتقاتلون، فأهل الإيمان لهم خندق، وأهل الكفر كذلك، فالذي يشاقق الرسول كأنه ترك خندق النبي صلى الله عليه وسلم ونزل في خندق الكفار، فالذي يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين نتركه فيما هو فيه ونحمله ما تحمل من آثام، قال: {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].
ثم قال الشيخ صنع الله: وأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فهذا يرده قول الله سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالله وحده سبحانه وتعالى هو الذي يخلق ووحده الذي يأمر سبحانه، فما كان من شيء فالله خلقه، فأين الذي خلقوه من دون الله سبحانه وتعالى؟ وقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المائدة:120] أي: التصرف في ملكوت السماوات والأرض لله، وقدم الجار والمجرور على الاسم في الآيتين، لاختصاصه سبحانه وتفرده بذلك، فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وأصلها الخلق والأمر له، وقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المائدة:120]، والأصل أن يقال: ملك السماوات والأرض لله، ولكن لاختصاصه بذلك وتفرده وحده قدم الجار والمجرور.
قال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، فالله هو العلي وحده لا شريك له القادر على التصرف، وكل من دونه تحته سبحانه، سواء كانوا صالحين أو طالحين، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، سواء كانوا يعقلون أو لا يعقلون، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، رجالاً أو نساء كل من تدعون من دون الله، لا يملكون فتيلاً ولا نقيراً ولا قطرة ولا قطميراً، لا يملكون شيئاً، وعبر هنا بأحقر الأشياء التي ينظر الإنسان إليها، وهي النقرة أو تسمى النقير الذي في النواة، والفتلة التي داخل النقير واسمها الفتيل، والغشاء الرقيق الذي حول النواة اسمه القطمير، فهؤلاء لا يملكون نقيراً ولا قطميراً ولا فتيلاً، مع أنها من أهون الأشياء، فهذا الشيء الحقير الذي تحتقره هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا يملكون أن يوجدوه، ولا يملكون أن يخلقوه فكيف بهذا الملكوت العظيم؟ وكيف يقال عنهم أنهم يتصرفون في هذا الكون؟ حاشا لله سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في ملكه.
قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].
يقول رحمه الله: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال الله جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فكما أنه جاء عليه الموت فسيجيء أيضاً على غيره عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42]، ولاحظ التعبير في هذه الآية، فالذي يموت لن يترك ليذهب أينما يشاء، بل يكون مقبوضاً عند الله سبحانه، فقد انقطع أمره عن الدنيا تماماً.
إذاً: لا يمكن أن يرجع الولي إلى الدنيا ويتحكم في العالم بعد وفاته، ولا يمكن أن يقتل إنسان ثم ترجع روحه إلى الدنيا لتعمل على تخويف الناس، لا يوجد شيء من هذا، إنما هو من كذب هؤلاء، فالله يخبر أن الروح إذا ذهبت قبضها الله سبحانه وأمسكها، قال سبحانه: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، ومعناه: أن الذي يتحرك ويذهب ويجيء حي، وأن الذي ذاق الموت فهو لا يتحرك وقد صار إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يملك أن يرجع إلى الدنيا مرة ثانية، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، إذا مات ابن آدم انقطع عمله، والمقصود كل بني آدم بما فيهم الأنبياء والرسل والأولياء وجميع من خلقهم الله عز وجل من ذرية آدم، فإذا مات الإنسان ليس له من عمل بعد موته إلا ثلاثة أشياء، وهذا استثناء معناه الحصر في هذه الثلاثة فقط: (صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
وهذه الأعمال الثلاثة التي تبقى لهم إنما كانت منهم في حياتهم، فبعد أن مات لن يأتي ليعلم الناس، ولكن ينفعه من العلم ما استفاد منه الناس في حياته وبعد موته، وبعد أن مات لن يستطيع أن يرجع ويتصدق، ولكن ما جعله صدقة جارية فانتفع بها الناس بعد وفاته فله أجرها، وإذا كان له ولد فرباه وأحسن تربيته، فهذا هو الذي يدعو لأبيه وهذا هو الذي ينتفع به الميت بعد وفاته.
ومفهوم الحديث أن غير هؤلاء لا ينتفع بها العبد.