وانظر هنا إلى ما قاله الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، فهذه كانت من الأصر والأغلال التي كانت على السابقين.
فالله عز وجل ضيق على السابقين، والله يفعل كل شيء بحكمة سبحانه، فكل شيء عنده بحكمة، فهنا علينا أن نتعظ كيف رحمنا الله عز وجل بهذا الدين العظيم، وبهذا النبي الذي أرسله رحمة للعالمين، فهو رحمة لنا ورحمة بنا عليه الصلاة والسلام.
ففي شرعنا قال تعالى عن المكره: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، إذاً: فالإنسان المكره في ديننا إذا كانوا سيقتلونه فقالوا له: اعمل وانطق بكذا وإلا سنقتلك، فإنه يجوز له أن ينطق ولو بكلمة الكفر فراراً من أن يقتل.
وذكر المفسرون في الآية السابقة: (أن عماراً رضي الله عنه أخذه الكفار ووضعوه في الماء وغرقوه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقالوا له: إذا أردت أن تنجو فاذكر محمداً بسوء واكفر بدينه، فأعطاهم ما أرادوا، ثم ذهب يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم فما كان منه -وهو بالمؤمنين رءوف رحيم عليه الصلاة والسلام- إلا أن قال له: أخذوك فغطوك في الماء وقالوا: اذكر محمداً بسوء؟ قال: نعم يا رسول الله! وبكى رضي الله عنه، فقال: إن عادوا فعد).
فطمأنه صلى الله عليه وسلم أنه ليس عليه في ذلك شيء؛ لأنه مكره على ذلك.
وجاءت الآية في هذا المعنى في سورة النحل، وسورة النحل سورة مكية، وأما الذين من قبلنا فلم يكن لهم عذر في الإكراه على الكفر، وإنما أمرهم الله عز وجل بالثبات حتى لو قتلوا في ذلك.
فهذا الذي قيل له: قرب ولو ذبابة فقال: إني لا أقرب شيئاً لغير الله، فقتلوه، فقد صبر على ذلك، فكان ذلك أعظم أعماله فدخل الجنة بذلك، وقد يكون هذا الإنسان قبل ذلك وقع في بعض الذنوب، لكنه لما رفض أن يقرب الذبابة وحافظ على مقام التوحيد كان ذلك سبباً رئيساً لدخوله الجنة.
والعكس في هذا الأول الذي دخل النار في ذبابة، فكأنه لم يكن قبل ذلك يستحق أن يكون في النار، ولذلك يقول لنا الشيخ هنا في المسألة التاسعة: أنه دخل النار بسبب ذلك الفعل الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم.
والمسألة الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً لما قال: دخل النار في ذباب، فليس بعد الكفر ذنب، فلو كان كافراً أصلاً ما زاد شيئاً بأن يقرب ذبابة، لأنه كافر أصلاً، فدل هذا على أنه كان قبل ذلك على الإسلام، وأنه كان يستحق الجنة لولا ما فعل من تقريبه الذباب، فاستحق به أن يدخل النار.
وهذا كان في الأمم السابقة، فمقام التوحيد عظيم عند الله عز وجل، وخفف علينا في أن المكره يجوز له أن يتلفظ ولو بلفظة الكفر طالما أنه مكره، فالله عز وجل يعفو عنه إذا كان الإكراه إكراهاً حقيقياً على هذا الإنسان.
يقول: [فيه شاهد للحديث الصحيح: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك)].
فالجنة قريبة من الإنسان جداً لو أنه عمل صالحاً، والنار قريبة أيضاً لو أنه ترك الصالحات ووقع في المحرمات.
وأيضاً جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله لا يظن أن تبلغ ما بلغته تهوي به في النار سبعين خريفاً، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضا الله تبارك وتعالى) فيكون على العكس من ذلك.
فالغرض: أن الإنسان قد يحتقر ذنباً من الذنوب ويكون هذا الذنب سبباً في دخول العبد النار، فأمر التوحيد أهم ما يكون، فالمسلم إذا وقع في شيء من الشرك عليه أن يراجع نفسه، ويوحد ربه سبحانه، ويقول: لا إله إلا الله.
فإذا حلف بغير الله وهو لا يقصد أن يعظم غير الله ولكنها كلمة خرجت من لسانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقول: لا إله إلا الله، فكان الصحابة يفلت لسان أحدهم فيقول: واللات والعزى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله.
ولا يستمرئ الإنسان أن يقع في الشرك بالله سبحانه، ويقول: هذا شيء بسيط، بل عليه أن يتذكر قصة هذا الرجل الذي قرب ذبابة وظن أنه شيء بسيط فدخل بسببه النار.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.