من فوائد هذا الحديث ما ذكره الشارح حيث قال: في هذا الحديث الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أبعد ما يباعده من رحمته.
إن الإنسان إذا لم يتعلم دين الله سبحانه وتعالى فلعل عقله يدعوه إلى الشرك بالله فيقع فيه من حيث لا يدري، فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا حديثي عهد بكفر، ومع ذلك طلبوا منه أن يجعل لهم ذات أنواط، وهي شجرة يعلقون بها سيوفهم ويتبركون بها، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنهم وقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل حين قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف:138].
ومن الشرك والكفر بالله سبحانه أن يعتقد الإنسان ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم عذرهم واكتفى بأن بين لهم صلوات الله وسلامه عليه أنه شرك.
يقول ابن أبي شامة: ومن هذا القسم ما قد عم البلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاكم أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك.
وهكذا فعباد القبور في كل مكان يعبدونها من دون الله سبحانه، ويرجون منها البركة، ولو كان أصحاب هذه القبور أحياءً لطلبوا من الله عز وجل النفع، وطلبوا منه كشف الضر، فكيف يترك هؤلاء ربهم ويذهبون إلى قبر لا يملك صاحبه لنفسه شيئاً، فضلاً عن أن يملكه لغيره.
فالاعتقاد أن القبر ينفع أو يضر مع الله سبحانه من الكفر بالله، ومن الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة، فلا يجوز لأحد أن يتوسل بقبر أو يطلب من القبر شيئاً، أو يتبرك به.
ولكن الكثير من الناس يجهل هذا الشيء.
ويذهب إلى مكان فيه رجل صالح، ويزعم أنه يصلي لله، ولا يطلب من هذا الصالح شيئاً ولكنه يذهب إلى هذا المكان رجاء البركة من الله بأن يأتي مصاحباً لهذا الرجل الصالح، فهذا من الشرك الأصغر.
ففرق بين أن يعتقد أن هذا ينفع ويضر، وهذا من الشرك الأكبر، وبين أنه يعتقد أن الذي ينفعه أو يضره هو الله، ولكنه يرجو بركة هذا المكان، فهذا ليس من الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة، وإنما هو من الشرك الأصغر.
قال ابن القيم: ما أسرع أهل الشرك لاتخاذ الأوثان من دون الله سبحانه، يقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر، يعني: تقبل العبادة.
فيذهب البعض فيتعبد عندها ويطلب منها ما لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد).
واستجاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم وسخر من يقومون بحفظ قبره من أن يأتي أحد ويرفع يديه ويدعوه من دون الله.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وحذرهم مما صنع هؤلاء.
يقول الشارح هنا: وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون هذا الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة.
فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، فمن الممكن أن يقع الشرك في هذه الأمة.
وإن كان الله استجاب له فيما يتعلق بقبره صلى الله عليه وسلم إلا أن كثيراً من قبور الصالحين صارت أوثاناً تعبد من دون الله سبحانه وتعالى.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، لهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم ما طلبوه منه كطلب بني إسرائيل، فهم يريدون شجرة يعلقون بها السيوف، وهذا تشبه بالمشركين، فالمشركون كانوا يتبركون بها حتى تنزل عليهم البركة، وينتصرون في الحرب، وهذا من الشرك بالله سبحانه؛ لأنهم اعتقدوا أن الشجرة تنفع أو تضر أو تعطي أو تمنع.
وفي هذا الحديث أيضاً: علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (لتركبن سنن من كان قبلكم).
أي: ستقلدونهم فيها، فتعبدون غير الله سبحانه، وقد وقع في هذه الأمة الكثير من ذلك، فكثير من الناس يذهبون فيطوفون بقبر البدوي، ويدعونه من دون الله سبحانه، وينذرون لـ أبي العباس، وللبدوي وللحسين ولغيرهم، والنذر لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لتركبن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن)، أي: أنكم تتبعونهم في شركهم وكفرهم وبدعهم وعوائدهم.
وفي الحديث النهي عن التشبه بأهل الجاهلية، وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلون، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.