قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: وقد جاء عن النبي صلي الله عليه وسلم من طريقين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن زوارات القبور " 1 وذكر حديث ابن عباس. ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر. وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب. ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي؛ فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذا، أي مخالفا لما ثبت بنقل الثقات، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.

والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: " لو شهدتك ما زرتك "2. وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال؛ إذ لو كان كذلك لاستحبت زيارته سواء شهدته أم لا.

قلت: فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة.

وهدا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله ابن أبي مُليكة

عنها، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله ابن أبي مليكة أيضا: " أن عائشة -رضي الله عنها- أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين أليس نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها"3.

فأجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة؛ فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها: " قد أمر بزيارتها " فهذا يبين أنه أمر بها أمرا يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة. ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال، ولم تقل لأخيها لما زرتك واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله: فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله: " لعن الله زوارات القبور " بعد إذنه للرجال في الزيارة. يدل على أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015