لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ: كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُصَلَّى بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ: أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُصَلًّى فِيهَا (وَقَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا جُمُعَةَ» إلَخْ) رَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا صَلَاةَ فِطْرٍ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ أَوْ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ» صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تَشْرِيقَ وَلَا جُمُعَةَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَكَفَى بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قُدْوَةً.
وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجُوَاثَا قَرْيَةٍ بِالْبَحْرَيْنِ» . فَلَا يُنَافِي الْمِصْرِيَّةَ تَسْمِيَةُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ اسْمَ الْقَرْيَةِ، إذْ الْقَرْيَةُ تُقَالُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِهِمْ وَهُوَ لُغَةُ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أَيْ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَكَّةَ مِصْرٌ.
وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّ جُوَاثَا حِصْنٌ بِالْبَحْرَيْنِ فَهِيَ مِصْرٌ، إذْ لَا يَخْلُو الْحِصْنُ عَنْ حَاكِمٍ عَلَيْهِمْ وَعَالِمٍ، وَلِذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: إنَّهَا مَدِينَةٌ فِي الْبَحْرَيْنِ، وَكَيْفَ وَالْحِصْنُ يَكُونُ بِأَيِّ سُورٍ وَلَا يَخْلُو مَا كَانَ كَذَلِكَ عَمَّا قُلْنَا عَادَةً. وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَكَانَ كَعْبٌ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ تَرَحَّمَ عَلَى أَسْعَدَ بِذَلِكَ قَالَ: قُلْت كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ، فَكَانَ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا يَلْزَمُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْجُمُعَةُ، وَبِغَيْرِ عِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لِلْيَهُودِ يَوْمٌ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلِلنُّصَّارِ يَوْمٌ، فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ فِيهِ نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَنُصَلِّي، فَقَالُوا: يَوْمَ السَّبْتِ لِلْيَهُودِ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ لِلنَّصَارَى، فَاجْعَلُوهُ يَوْمَ الْعُرُوبَةِ فَاجْتَمَعُوا إلَى مَسْجِدٍ فَصَلَّى بِهِمْ وَذَكَّرَهُمْ وَسَمَّوْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ فَتَذَكَّرَ عِنْدَ هَذَا تَرْكَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّرَاوِيحَ لَمَّا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ فَتِلْكَ الْحَرَّةُ مِنْ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ وَلِلْفِنَاءِ حُكْمُ الْمِصْرِ فَسَلِمَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْ الْمُعَارِضِ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِهِ سَمَاعًا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الِافْتِرَاضِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَمْكِنَةِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى نَفْيِهَا فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَمَاعٍ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِلْقِيَاسِ الْمُسْتَمِرِّ فِي مِثْلِهِ، وَفِي الصَّلَوَاتِ الْبَاقِيَاتِ أَيْضًا.
وَالْقَاطِعُ لِلشَّغَبِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْأُمَّةِ إذْ لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْبَرَارِي إجْمَاعًا وَلَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ عِنْدَهُ، بَلْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْعَنَ أَهْلُهَا عَنْهَا صَيْفًا وَلَا شِتَاءً، فَكَانَ خُصُوصُ الْمَكَانِ مُرَادًا فِيهَا إجْمَاعًا، فَقَدَّرَ الْقَرْيَةَ الْخَاصَّةَ وَقَدَّرْنَا الْمِصْرَ وَهُوَ أَوْلَى لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ لَوْ عُورِضَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مُعَارَضَةُ مَا ذَكَرْنَا إيَّاهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ الْمَنَابِرِ وَالْجُمَعِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَوْ آحَادًا، وَلَوْ مَصَّرَ الْإِمَامُ مَوْضِعًا وَأَمَرَهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ جَازَ، وَلَوْ مَنَعَ أَهْلَ مِصْرٍ أَنْ يُجْمِعُوا لَمْ يُجْمِعُوا.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: إذَا نَهَى مُجْتَهِدًا لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَخْرُجَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِصْرًا جَازَ، أَمَّا مُتَعَنِّتًا وَإِضْرَارًا فَلَهُمْ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى مَنْ يُصَلِّي،