قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْأَخْرَسُ يَكْتُبُ كِتَابًا أَوْ يُومِئُ إيمَاءً يُعْرَفُ بِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَيُقْتَصُّ لَهُ وَمِنْهُ، وَلَا يُحَدُّ وَلَا يُحَدُّ لَهُ) أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَدَّى وَاجِبَ التَّبْلِيغِ مَرَّةً بِالْعِبَارَةِ وَتَارَةً بِالْكِتَابَةِ إلَى الْغُيَّبِ، وَالْمُجَوِّزُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ الْعَجْزُ وَهُوَ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ أَظْهَرُ وَأَلْزَمُ.
ثُمَّ الْكِتَابُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: مُسْتَبِينٌ مَرْسُومٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ عَلَى مَا قَالُوا. وَمُسْتَبِينٌ غَيْرُ مَرْسُومٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْجِدَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، وَيَنْوِي فِيهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ صَرِيحِ الْكِتَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَغَيْرُ مُسْتَبِينٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ غَيْرِ مَسْمُوعٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ. وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَجُعِلَتْ حُجَّةً فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَلَا تَخْتَصُّ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ، وَقَدْ تَثْبُتُ بِدُونِ اللَّفْظِ. وَالْقِصَاصُ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحُدُودَ لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لِلْقَاذِفِ فَلَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــQقِيلَ آنِفًا، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ طَرَحَ هَذَا التَّعْلِيلَ مِنْ الْبَيِّنِ (قَوْلُهُ أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابُ مِمَّنْ دَنَا إلَخْ) أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ. وَهُوَ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعِي وَلَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِهِ الْآخَرِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ أَنَّ كِتَابَةَ الْأَخْرَسِ حُجَّةٌ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِهَا حُجَّةً فِي الْحُدُودِ، إذْ لَا فَارِقَ فِيهِ بَيْنَ الْحُدُودِ وَمَا سِوَاهَا، بَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً فِي الْحُدُودِ أَيْضًا إذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً مَرْسُومَةً بِاقْتِضَاءِ قَوْلِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ عَلَى مَا قَالُوا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً ضَرُورِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ أَيْضًا كَمَا كَانَ النُّطْقُ حُجَّةً فِيهَا أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْمُخْلَصِ.
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَجُعِلَتْ حُجَّةً فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ فِيهِ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذَا لَمْ تُشْتَرَطْ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ. كَمَا لَمْ تُشْتَرَطْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً وَمَرَّ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَابِ عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ. فَإِنْ قُلْت: لَيْسَ الطَّلَاقُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الصِّرْفَةِ، بَلْ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الزَّوْجَيْنِ بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى ذَلِكَ. قُلْت: مُجَرَّدُ تَحَقُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ لَا يَكْفِي فِي كَوْنِ إشَارَةِ الْأَخْرَسِ حُجَّةً فِيهِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ إشَارَتَهُ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ حَدِّ الْقَذْفِ مَعَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ. كَمَا أَنَّ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لَا بُدَّ فِي كَوْنِ إشَارَتِهِ حُجَّةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَقَطْ أَوْ مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْقِصَاصِ، لَا مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَائِنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَوْنُ الطَّلَاقِ مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَمْنُوعٌ. كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِدُونِ الدَّعْوَى، فَإِنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، حَتَّى أَنَّ مُطَالَبَةَ