قَالَ: (وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الْآيَةُ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) بِهَذَا النَّصِّ (وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ،.
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرُوهُ قَطْعًا.
وَأَمَّا جَعْلُ الدِّيَاتِ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ دُونَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجِنَايَاتِ فَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ أَصَالَةً، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ مَسَائِلُ الدِّيَاتِ وَمَبَاحِثُهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ يُجْعَلَ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ كَكِتَابِ الطِّهَارَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَكِتَابِ الصَّرْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَضْعُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فَقَدَّمَ فِي مُخْتَصَرِهِ كِتَابَ الدِّيَاتِ عَلَى كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، وَالشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرَ الطَّحَاوِيُّ قَدَّمَ الْقِصَاصَ عَلَى الدِّيَاتِ، وَلَكِنْ جَعَلَهُمَا فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ وَتَرْجَمَ الْكِتَابَ بِكِتَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ أَحْكَامَ الْجِنَايَاتِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَلَمْ يُسَمِّ كِتَابَ الْجِنَايَاتِ أَصْلًا، لِأَنَّ عَامَّةَ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ هِيَ الدِّيَاتُ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ وَالدِّيَةُ تَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَفِي الْخَطَإِ وَفِي شَبَهِ الْخَطَإِ، وَفِي الْقَتْلِ بِسَبَبٍ، وَفِي الْعَمْدِ أَيْضًا إذَا تَمَكَّنَ فِيهِ الشُّبْهَةُ فَرَجَّحَ جَانِبَ الدِّيَةِ فِي نِسْبَةِ الْكِتَابِ إلَيْهَا.
ثُمَّ إنَّ الدِّيَةَ مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ إذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، ثُمَّ قِيلَ لِذَلِكَ الْمَالِ الدِّيَةُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الدِّيَةُ بِالْكَسْرِ: حَقُّ الْقَتِيلِ جَمْعُهَا دِيَاتٌ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَدَيْت الْقَتِيلَ أَدِيهِ دِيَةً: إذَا أَعْطَيْت دِيَتَهُ. وَقَالَ فِي الْكَافِي: الدِّيَةُ الْمَالُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَالْأَرْشُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ انْتَهَى.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ مُخْتَصَّةً بِمَا هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَيُنَافِيهِ مَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي مِنْ أَنَّ فِي الْمَارِنِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّحْيَةِ الدِّيَةَ وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةَ وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أُطْلِقَتْ الدِّيَةُ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ بَدَلُ مَا دُونَ النَّفْسِ، وَكَذَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ» وَهَكَذَا هُوَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا سَيَأْتِي.
فَالْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الدِّيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ آخِرًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ قَالَ: وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِضَمَانٍ يَجِبُ بِمُقَابِلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ، سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا تُودَى عَادَةً، لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الْآدَمِيِّ انْتَهَى
(قَوْلُهُ وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الْآيَةُ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] بِهَذَا النَّصِّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] الْآيَةُ، وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهَا بِالتَّحْرِيرِ أَوْ الصَّوْمِ فَقَطْ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ، وَالْمَقَادِيرُ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ انْتَهَى.
أَقُولُ: أَخَلَّ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ بِحَقِّ الْمَقَامِ فِي تَحْرِيرِهِ هَذَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ خَصَّ بِالذَّكَرِ فِي بَيَانِ كَفَّارَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَجَعَلَ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] دَلِيلًا عَلَيْهِ، فَقَدْ قَصَّرَ فِي الْبَيَانِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ كَوْنَ كَفَّارَتِهِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَلَمْ يُصِبْ فِي سَوْقِ الدَّلِيلِ حَيْثُ جَعَلَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِ كَفَّارَتِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ مَجْمُوعُ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] دَلِيلٌ عَلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنْ كَفَّارَتِهِ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمُدَّعِي، بِخِلَافِ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيْ كَفَّارَتِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِمَا حَيْثُ قَالَ: وَكَفَّارَتُهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ