وَأَوَّلُوا كَذِبَهُمْ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَعْنَى الْإِبْهَامِ، وَالثَّانِي بِمَعْنَى الصَّنِيعِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ.
ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ قَالُوا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الشُّهُودُ فِي قَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلَهُ إمَّا صَادِقُونَ أَوْ كَاذِبُونَ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ إنْ صَدَقُوا امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِاخْتِلَافِ مُوجِبِ السَّيْفِ وَالْعَصَا.
وَإِنْ كَذَبُوا صَارُوا فَسَقَةً وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ. فَقَالَ فِي جَوَابِهِ: إنَّهُمْ جُعِلُوا عَالَمَيْنِ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ.
لَكِنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَا نَدْرِي اخْتَارُوا حِسْبَةَ السِّتْرِ عَلَى الْقَاتِلِ وَأَحْسَنُوا إلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجُعِلَ كَذِبُهُمْ هَذَا مَعْفُوًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ» فَبِتَأْوِيلِهِمْ كَذِبَهُمْ بِهَذَا لَمْ يَكُونُوا فَسَقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوَّلُوا كَذِبَهُمْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِإِطْلَاقِهِ: أَيْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ بِتَجْوِيزِ الْكَذِبِ انْتَهَى كَلَامُهُمْ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا وُرُودَ لِمَا ذَكَرُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَصْلًا حَتَّى يَرْتَكِبَ الْمُصَنِّفُ لِدَفْعِهِ هَذَا الْمَضِيقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَحْذُورِ فِي صُورَةِ إنْ صَدَقَ الشُّهُودُ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلِ. تَوْضِيحُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ بِآلَةٍ وَشَهَادَةُ الْآخَرِ مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ بِآلَةٍ أُخْرَى حَتَّى يَتَحَقَّقَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْفِعْلِ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ، بَلْ كَانَتْ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ، فَيَجِبُ أَقَلُّ مُوجِبَيْهِ وَهُوَ الدِّيَةُ فَيَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَلَا يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ صَدَقَ الشُّهُودُ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ، وَأَيْضًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي ذَيْلِ هَذَا الْكَلَامِ: فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ يَأْبَى كَوْنُ مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ، إذْ يَكُونُ حَاصِلُ الْجَوَابِ حِينَئِذٍ اخْتِيَارَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ وَمَنْعَ فِسْقِهِمْ بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِمْ كَذِبَهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فَلَا يَبْقَى الِاحْتِيَاجُ إذْ ذَاكَ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ بِالشَّكِّ، بَلْ لَا يَكُونُ لَهُ مِسَاسٌ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ.
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّهُ يُحْمَلُ إجْمَالُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ إلَخْ وَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ يَظْهَرُ تَقْرِيرُهُ وَتَطْبِيقُهُ لِلْمَقَامِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ صَادِقٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهٍ آخَرَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ غَفْلَةٌ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ (قَوْلُهُ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: أَيْ سَتْرُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِجَامِعِ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هَاهُنَا كَمَا أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ هُنَاكَ فَكَانَ وُرُودُ الْحَدِيثِ هُنَاكَ وُرُودًا هَاهُنَا انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ فِي بَابِ الْقَتْلِ إنَّمَا هُوَ عَفْوُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ دُونَ عَفْوِ الشُّهُودِ. كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ حَقَّ الشُّهُودِ لَكَانَ الْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ لَا يَشْهَدُوا رَأْسًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ كَمَا فِي الْحُدُودِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْبَاعِثُ عَلَى ارْتِكَابِهِمْ الْكَذِبَ فِي شَهَادَتِهِمْ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا، بِخِلَافِ إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَقَّف عَلَى ارْتِكَابِ الْكَذِبِ فَيُرَخَّصُ الْكَذِبُ هُنَاكَ. وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَ كَلَامِهِمْ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَفْوِ دَرْءَ الْقِصَاصِ. وَإِلَّا فَهُوَ تِلْوُ الْوُجُوبِ، فَحَيْثُ لَا وُجُوبَ لِلْقِصَاصِ لَا عَفْوَ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ بِجَامِعِ أَنَّ السِّتْرَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ انْتَهَى. أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى تَوْجِيهِهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ دَرْءُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَكَانَ