وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذْبُوحُ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرِ وَالسِّنِّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ» وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَمَا إذَا ذُبِحَ بِغَيْرِ الْمَنْزُوعِ، وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت» وَيُرْوَى «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ آلَةٌ جَارِحَةٌ فَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ وَصَارَ كَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالثِّقْلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ جُزْءِ الْآدَمِيِّ وَلِأَنَّ فِيهِ إعْسَارًا عَلَى الْحَيَوَانِ وَقَدْ أُمِرْنَا فِيهِ بِالْإِحْسَانِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِاللِّيطَةِ وَالْمَرْوَةِ وَكُلِّ شَيْءٍ أَنْهَرَ الدَّمَ إلَّا السِّنَّ الْقَائِمَ وَالظُّفْرَ الْقَائِمَ) فَإِنَّ الْمَذْبُوحَ بِهِمَا مَيْتَةٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ نَصًّا. وَمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا يَحْتَاطُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ فِي الْحِلِّ لَا بَأْسَ بِهِ وَفِي الْحُرْمَةِ يَقُولُ يُكْرَهُ أَوْ لَمْ يُؤْكَلْ. قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحِدَّ الذَّابِحُ شَفْرَتَهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْجِعَهَا ثُمَّ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ، هَلَّا حَدَدْتهَا قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا» قَالَ (وَمَنْ بَلَغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ أَوْ قَطَعَ الرَّأْسَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنَّ قَطْعَ الْجَمِيعِ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ الْأَوْدَاجُ جَمْعٌ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] لِأَنَّ مَا تَحْتَهُ لَيْسَ أَفْرَادَهُ حَقِيقَةً، وَالِانْصِرَافُ إلَى الْجِنْسِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ لِهَذَا الْإِيرَادِ مِسَاسٌ بِالْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْعِنَايَةِ، إذْ لَمْ يَقُلْ فِيهَا إنَّ الْجَمْعَ حُمِلَ هَاهُنَا عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْأُصُولِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَالَ فِيهَا: إنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ أَفْرَادَهُ حَقِيقَةً، لِأَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَدَجَيْنِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَالِانْصِرَاف إلَى الْجِنْسِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ: أَيْ فِيمَا يَكُونُ مَا تَحْتَهُ مِنْ أَفْرَادِهِ حَقِيقَةً فَصَارَ حَاصِلُهُ نَفْيَ جَوَازِ الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ هَاهُنَا فَلَا يُتَّجَهُ عَلَيْهِ الْإِيرَادُ الْمَذْكُورُ أَصْلًا.
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذْبُوحُ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرِ وَالسِّنُّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ» ) أَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مُدَّعَاهُ فِي الْبَعْضِ، فَإِنَّ الْقَرْنَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي الْمُدَّعَى مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ الْمَذْبُوحِ بِذَلِكَ بَلْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ حَيْثُ اسْتَثْنَى الظُّفْرَ وَالسِّنَّ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُمَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً) أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا بَلْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَكَاةً حِينَئِذٍ بَلْ هُوَ أَيْضًا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ