(وَلَوْ قَالَ دَارِي لَك هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً فَهِيَ عَارِيَّةٌ) ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُحْكَمٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ وَالْهِبَةُ تَحْتَمِلُهَا وَتَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَكَذَا إذَا قَالَ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ نَحْلِي سُكْنَى أَوْ سُكْنَى صَدَقَةً أَوْ صَدَقَةٌ عَارِيَّةً أَوْ عَارِيَّةٌ هِبَةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ. (وَلَوْ قَالَ هِبَةٌ تَسْكُنُهَا فَهِيَ هِبَةٌ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ هِبَةُ سُكْنَى؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ.
قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقَسَّمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ جَائِزَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــQ «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: هَاهُنَا كَلَامٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْفَصِلَةً عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ، وَعَدَمِ تَقْيِيدِهَا بِعَدَمِ إرَادَةِ الْهِبَةِ، أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَارِيَّةً وَإِنْ نَوَى بِالْمِنْحَةِ الْهِبَةَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ مَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ، وَقَوْلَهُ حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ عَارِيَّةٌ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِمَا الْهِبَةَ. وَقَالَ فِي التَّعْلِيلِ: لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَةِ الْهِبَةِ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا فَكَانَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ نَوْعُ تَنَافُرٍ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَعْلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» مَنْظُورٌ فِيهِ، إذْ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ هَذَا الطَّعَامَ فَهُوَ هِبَةٌ، وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَهُوَ عَارِيَّةٌ. وَقَالَ: فَالْأَصْلُ أَنَّ لَفْظَةَ الْمِنْحَةِ إذَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ هِبَةٌ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ عَارِيَّةٌ انْتَهَى. وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، فَتَعْلِيلُ الْفَصْلِ الثَّانِي بِهِ يَنْتَقِضُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ) إذْ الْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِاسْمِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ. قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا فِعْلُ الْمُخَاطَبِ فَلَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقِيلٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مُخْتَارَ الْعَامَّةِ. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا لَيْسَ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ، وَإِنَّمَا فِعْلُ الْمُخَاطَبِ السُّكْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ تَسْكُنُهَا، وَالْكَلَامُ فِي عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ هَذَا اللَّفْظِ