قَالَ (وَإِذَا صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقَةً جَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ وَيُودِعَ) لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يَتَحَصَّلُ إِلَّا بِالتِّجَارَةِ، فَيَنْتَظِمُ الْعَقْدُ صُنُوفَ التِّجَارَةِ وَمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَكَذَا الْإِبْضَاعُ وَالْإِيدَاعُ وَالْمُسَافَرَةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى، كَيْفَ وَأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ السَّيْرُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ. وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إِنْ دَفَعَ فِي بَلَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِنْ دَفَعَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْغَالِبِ، وَالظَّاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ (وَلَا يُضَارِبُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُ الْمَالِ أَوْ يَقُولَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ) لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ أَوِ التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ إِلَيْهِ وَكَانَ كَالتَّوْكِيلِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إِلَّا إِذَا قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: وَإِذَا صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ مُطْلُقَةً جَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيُوكِلَ وَيُسَافِرَ وَيَبْضَعَ وَيُوَدِّعَ) فَسَّرَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ الْمُضَارَبَةَ الْمُطْلَقَةَ هَاهُنَا بِأَنْ لَا تَكُونَ مُقَيَّدَةٌ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ.
أَقُولُ: هَذَا تَقْصِيرٌ مِنْهُمْ جِدًّا؛ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُقَيَّدَةٌ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَكِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِسِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمُعَامَلَةِ بِفُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَكُنْ مُطْلَقَةً بَلْ كَانَتْ مُقَيِّدَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا، كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ بَعْضٌ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ هَاهُنَا، أَيْ: غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالسِّلْعَةِ.
أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَوْعُ تَقْصِيرٍ لِدُخُولٍ مَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمُعَامَلَةِ بِفُلَانٍ بِعَيْنِهِ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَيْضًا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُطْلَقَةٍ؛ حَيْثُ يَصِحُّ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، فَالْأَوْلَى فِي تَفْسِيرِهَا أَنْ يُقَالَ: مَا لَمْ تُقَيَّدْ بِزَمَانٍ وَلَا بِمَكَانِ وَلَا بِنَوْعٍ مِنَ التِّجَارَةِ وَلَا بِشَخْصٍ مِنَ الْمُعَامَلِينَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: إِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ سَائِرِ التِّجَارَاتِ وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مَا هُوَ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ، انْتَهَى.
(قَوْلُهُ: وَلَا يُضَارِبُ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ يَقُولُ: لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مَثْلَهُ) . قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَا يَرِدُ جَوَازُ إِذْنِ الْمَأْذُونِ لِعَبْدِهِ وَجَوَازِ الْكِتَابَةِ لِلْمُكَاتَبِ وَالْإِجَارَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ.