لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا دُونَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُمَا فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، كَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ: رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَصَفَ الدَّرَاهِمَ مَثَلًا بِصِفَةٍ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا وَهِيَ الْكَثْرَةُ فَيَلْغُو ذِكْرُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ إثْبَاتَ صِفَةِ الْكَثْرَةِ لِمِقْدَارٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ الْكَثِيرَةِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْكَثْرَةَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَصْدُقُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى كُلِّ عَدَدٍ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ فَلِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، فَكَمْ مِنْ كَثِيرٍ عِنْدَ قَوْمٍ قَلِيلٌ عِنْدَ الْآخَرِينَ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ يَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْعَشَرَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَبِمَا دُونَهُ عِنْدَ الْآخَرِ كَمَا فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ، وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالْمِائَتَيْنِ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ، وَيَتَعَلَّقُ تَارَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ فِي الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهَا أَصْلًا فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا لَغَا ذِكْرُهَا فَيَعْمَلُ بِقَوْلِهِ دَرَاهِمَ وَيَنْصَرِفُ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصَابِ) يَعْنِي صَاحِبَ نِصَابِ الزَّكَاةِ (مُكْثِرٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ) بِدَفْعِ زَكَاتِهِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفَقِيرِ (بِخِلَافِ مَا دُونَهُ) أَيْ بِخِلَافِ مَا دُونَ النِّصَابِ. فَإِنَّ صَاحِبَهُ مُقِلٌّ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ مُوَاسَاةُ غَيْرِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا: وَقَالَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا: أَيْ بِالْكَثْرَةِ حُكْمًا لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ نِصَابَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنَّ نِصَابَ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ عِنْدَنَا لَهُ أَيْضًا كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ ثُبُوتِ قَطْعِ الْيَدِ وَاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ، وَكَذَا الْأَكْثَرُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فِي الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ لَهُ كَثْرَةٌ فِي تَرْتِيبِ حُكْمِ وُجُوبِ الْحَجِّ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَاتِيك الْكَثْرَاتِ الْحُكْمِيَّةِ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِإِحْدَاهَا عَلَى التَّعْيِينِ، فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ فِي النِّصَابِ كَثْرَةً حُكْمِيَّةً لَا يُجْدِي شَيْئًا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ؛ لِأَنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْإِلْغَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ كَثْرَةٌ أُخْرَى فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا: وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ تَعَذَّرَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْعُرْفُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَكِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا حُكْمًا، وَلَا يُلْغَى مِنْ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ، فَيَجِبُ حَمْلُ الْكَثْرَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ حَتَّى لَا تَلْغُوَ هَذِهِ الصِّفَةُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ حُكْمًا، وَالدَّرَاهِمُ الْكَثِيرَةُ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ لِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ شَرْعًا فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَالْمَهْرِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ.
فَأَمَّا الْعَشَرَةُ إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَجَوَازِ النِّكَاحِ فَفِي حَقِّ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ قَلِيلَةٌ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ لَا إلَى النَّاقِصِ، وَأَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَثْرَةِ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَأَمَّا الْعَشَرَةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَكَانَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ حُكْمًا انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا بَسَطَهُ وَإِنْ أَفَادَ فِي الظَّاهِرِ أَوْلَوِيَّةَ حَمْلِ الدَّرَاهِمِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْعَشَرَةِ لَكِنْ لَمْ يُفِدْ أَوْلَوِيَّةَ حَمْلِهَا عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ كَمَا أَدْرَجَهُ نَفْسُهُ أَيْضًا فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ أَفَادَ أَوْلَوِيَّةَ الْعَكْسِ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ هُوَ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الْكَثْرَةُ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَجِّ أَيْضًا مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَأَمَّا الْمِائَتَانِ فَهُوَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِالنَّظَرِ إلَى حُكْمِ الْحَجِّ