وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ، كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَقْبَحَ قَطْعَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ بِكَلَامِ نَفْسِهِ فَانْتَظَرَ أَنْ يَتِمَّ جَوَابُ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ ثُمَّ فَسَّرَ مُرَادَهُ بِالْحُضُورِ فِي الْمِصْرِ.
وَثَانِيهمَا أَنَّ فَائِدَةَ هَذَا التَّفْسِيرِ الِاحْتِرَازُ عَنْ صُورَةِ الْحُضُورِ فِي الْمَجْلِسِ حَيْثُ كَانَ عَدَمُ الِاسْتِحْلَافِ هُنَاكَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِالِاخْتِلَافِ، فَمَا لَمْ يُذْكَرْ الْقَوْلُ الْمُشْعِرُ بِالْخِلَافِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَهُوَ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ: لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَةُ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَاقْتَضَى هَذَا السِّرُّ تَأْخِيرَ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ الْمَزْبُورَ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْتَحْلَفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي (بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ) فَسَّرَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ بِمَا مَرَّ قُبَيْلَ هَذَا الْبَابِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَك يَمِينُهُ» وَلَكِنْ قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَمَا فَسَّرَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ سَائِرُ الشُّرَّاحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ أَسَالِيبَ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِهِ هَذَا أَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ بِمَا رَوَيْنَا كَمَا يُعَبِّرُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِيمَا قَبْلُ بِمَا تَلَوْنَا، وَعَنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ بِمَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَك يَمِينُهُ لَمَا عَدَلَ عَنْ أُسْلُوبِهِ الْمُقَرَّرِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ كَيْفَ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ فِي ذِكْرِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: إنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِمَا رَوَيْنَا مُرِيدًا بِهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِيمَا قَبْلُ.
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» أَيْ مَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ لَا غَيْرُ. وَيُؤَيِّدُهُ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُسْتَحْلَفُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» انْتَهَى. فَإِنْ قُلْت: الَّذِي حَمَلَ الشُّرَّاحَ عَلَى تَفْسِيرِهِمْ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ بِمَا ذُكِرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ، فَإِنَّ كَوْنَ الْيَمِينِ حَقَّ الْمُدَّعِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَك يَمِينُهُ» حَيْثُ أَضَافَ إلَيْهِ الْيَمِينَ فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ.
قُلْت: نَعَمْ وَلَكِنْ يُفْهَمُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَإِنَّ كَلِمَةَ عَلَى فِي قَوْلِهِ «عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْكِرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ فَالْمُسْتَحِقُّ لَهُ هُوَ الْمُدَّعِي. نَعَمْ انْفِهَامُهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَظْهَرُ، لَكِنْ هَذَا لَا يُوجِبُ حَمْلَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى خِلَافِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُ الْمُطَّرِدَةُ (فَإِذَا طَالَبَهُ بِهِ يُجِيبُهُ) أَيْ إذَا طَالَبَ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ يُجِيبُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ: أَيْ يَحْكُمُ لَهُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ يُجِيبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَ: أَيْ يَحْلِفُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ؟ فَقَالَ لَا، فَقَالَ: لَك يَمِينُهُ» فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْيَمِينَ بَعْدَمَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ الْبَيِّنَةِ (فَلَا يَكُونُ حَقُّهُ دُونَهُ) أَيْ لَا يَكُونُ الْيَمِينُ حَقَّ الْمُدَّعِي دُونَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ: أَيْ بِغَيْرِ الْعَجْزِ عَنْهَا.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ كَوْنَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْيَمِينِ مُرَتَّبًا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْيَمِينُ حَقَّ الْمُدَّعِي دُونَ الْعَجْزِ عَنْهَا إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي مُقَابَلَةِ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» (كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ) أَيْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْيَمِينِ هُنَاكَ فَكَذَا هَاهُنَا وَالْجَامِعُ الْقُدْرَةُ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.
أَقُولُ: لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ