قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعَانِي لَا غَيْرُ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ: فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهُ مُخَالِفٌ لَهُ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصُّورَةَ أَيْضًا مُعْتَبَرَةٌ فَيَصِيرُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْعَمَلِ بِالْجِهَتَيْنِ لَا مِنْ قَبِيلِ تَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ أَوَّلَ هَذَا الشَّرْحِ مُخَالِفٌ لِآخِرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَوَّلِ إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ فِي صُورَةٍ فَالتَّرْجِيحُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ بِالْفِقْهِ: أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِهَةُ الْمَعْنَى دُونَ جِهَةِ الصُّورَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآخَرِ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهَا، صَرِيحٌ فِي أَنَّ كِلْتَا الْجِهَتَيْنِ مُعْتَبَرَتَانِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ تَوْجِيهَ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا وَتَبْيِينَ مَرَامِهِ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْجِهَتَيْنِ الْإِنْكَارُ الصُّورِيُّ وَالْإِنْكَارُ الْمَعْنَوِيُّ لَا الِادِّعَاءُ الصُّورِيُّ وَالْإِنْكَارُ الْمَعْنَوِيُّ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ حَيْثُ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَيْضًا فَلَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ الْمَعْنَوِيِّ اهـ.
أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الشَّرْحَ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ حِينَئِذٍ أَيْضًا، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّورَةِ هَاهُنَا الِادِّعَاءُ الصُّورِيُّ حَيْثُ جَعَلَ الصُّورَةَ قَيْدًا لِلِادِّعَاءِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّعَارُضِ هَاهُنَا مُجَرَّدُ التَّخَالُفِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ التَّنَافِي فِي الصِّدْقِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ بَيْنَ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ. أَمَّا عَدَمُ تَحَقُّقِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَدَمُ تَحَقُّقِ الثَّانِي بَيْنَهُمَا فَلِأَنَّ الْمُنْكِرَ الْمَعْنَوِيَّ فِيمَا إذَا قَالَ الْمُودَعُ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ هُوَ الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ حَيْثُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ، وَالْمُنْكِرُ الصُّورِيُّ هُوَ الْمُودِعُ بِالْكَسْرِ حَيْثُ يُنْكِرُ الرَّدَّ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ إنْكَارَيْهِمَا فِي الصِّدْقِ لِجَوَازِ أَنْ يَصْدُقَا مَعًا بِأَنْ لَا يَرُدَّ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْجِهَتَانِ فِي قَوْلِهِ: يَعْنِي إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ.
وَأَيْضًا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ الصُّورِيِّ مُغَايِرٌ لِمَحَلِّ الْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِقِيَامِ أَحَدِهِمَا بِالْمُودِعِ بِالْكَسْرِ وَالْآخَرِ بِالْمُودَعِ بِالْفَتْحِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الِادِّعَاءِ الصُّورِيِّ وَالْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا التَّعَارُضُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَطْعًا، وَمَحَلُّهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ فَكَانَ مَوْقِعًا لِلتَّعَارُضِ وَنِعْمَ مَا قِيلَ وَلَنْ يُصْلِحَ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ ثُمَّ إنَّ الْحَقَّ عِنْدِي أَنْ يُشْرَحَ هَذَا الْمُقَامَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ: أَيْ جِهَةُ الِادِّعَاءِ الصُّورِيِّ وَجِهَةُ الْإِنْكَارِ الْمَعْنَوِيِّ فَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ: أَيْ بِالْمَعْنَى عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ مَعْنًى وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً، وَأَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ قَبُولِ بَيِّنَةِ الْمُودِعِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ: إنَّمَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُودِعِ إذَا أَقَامَهَا عَلَى الرَّدِّ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تُقْبَلُ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي الزِّيَادَةَ، فَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً قُبِلَتْ، وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ لِدَفْعِ الْيَمِينِ كَمَا إذَا أَقَامَ الْمُودَعُ بَيِّنَةً عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمَالِكِ تُقْبَلُ اهـ.
فَحِينَئِذٍ يَتَّضِحُ الْمُرَادُ وَيَرْتَفِعُ الْفَسَادُ
(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى حَتَّى يَذْكُرَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي جِنْسِهِ) كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَقَدْرَهُ) مِثْلَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ كُرًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ لَا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ إذَا كَانَتْ حَاضِرَةً تَكْفِي الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِأَنَّ هَذِهِ مِلْكٌ لِي، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ قِيمَتَهَا عَلَى مَا سَيُفَصَّلُ. فَإِنْ قُلْتَ: عِبَارَةُ الْكِتَابِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ