. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْوَكَالَةِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الشَّهَادَاتِ بِأَنْوَاعِهَا وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ الرُّجُوعِ عَنْهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَكَالَةِ، إمَّا لِمُنَاسِبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْوَكَالَةِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إيصَالُ النَّفْعِ إلَى الْغَيْرِ بِالْإِعَانَةِ فِي حَقِّهِ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْلُح سَبَبًا لِاكْتِسَابِ الثَّوَابِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ الْعِقَابِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ صَاحِب الْعِنَايَةِ عَقِبَ الشَّهَادَةِ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ يَحْتَاج فِي مَعَاشِهِ إلَى تَعَاضُدٍ وَتَعَاوُضٍ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ التَّعَاضُدِ وَالْوَكَالَةِ مِنْهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَيْضًا فَصَارَتْ كَالْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَآثَرَ تَأْخِيرَهَا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَيْضًا كَمَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ مَثَلًا انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا سَهْوٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ التَّعَاوُضَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمِثَالِ إنَّمَا هُوَ فِي مُتَعَلَّقِ الْوَكَالَةِ، أَعْنِي الْمُوَكَّلَ بِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ أَوْ الشِّرَاءُ لَا نَفْسُ الْوَكَالَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا لَا فِي الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ التَّعَاوُضُ فِي مُتَعَلَّقِ الشَّهَادَةِ أَيْضًا كَمَا إذَا شَهِدَ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ مَثَلًا.
وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْوَكَالَةِ التَّعَاوُضُ كَمَا إذَا أَخَذَ الْوَكِيلُ الْأُجْرَةَ لِإِقَامَةِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ شَرْعًا، إذْ الْوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ إقَامَتُهَا فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ فِيهَا، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا فَرْضٌ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَدَاؤُهَا فَلَا يَجُوزُ فِيهَا التَّعَاوُضُ أَصْلًا. ثُمَّ إنَّ مَحَاسِنَ شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ ظَاهِرَةٌ، إذْ فِيهَا قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى مُبَاشَرَةِ أَفْعَالٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى هِمَمٍ شَتَّى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى أَنْ يُبَاشِرَ الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ، وَلَا كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى الْمُعَامَلَاتِ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ، فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاشَرَ بَعْضَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ تَعْلِيمًا لِسُنَّةِ التَّوَاضُعِ، وَفَوَّضَ بَعْضَهَا إلَى غَيْرِهِ تَرْفِيهًا لِأَصْحَابِ الْمُرُوءَاتِ. ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا أُمُورًا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهَا تَفْسِيرًا لِلْوَكَالَةِ لُغَةً وَشَرْعًا. وَدَلِيلُ جَوَازِهَا وَسَبَبِهَا وَرُكْنِهَا وَشَرْطِهَا وَصِفَتِهَا وَحُكْمِهَا.
أَمَّا تَفْسِيرُهَا لُغَةً: فَالْوَكَالَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلتَّوْكِيلِ، مِنْ وَكَّلَهُ بِكَذَا إذَا فَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ. وَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ، وَالْجَمْعُ الْوُكَلَاءُ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ: أَيْ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ. وَأَمَّا شَرْعًا: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إقَامَةِ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ. وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهَا فَالْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19]