ثُمَّ قِيلَ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ تَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا قَسَّمَ الْإِمَامُ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ. وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَسِّمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــQ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلَى قَوْلِهِ {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ، وَقِسْمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَنَائِمَ حُنَيْنٍ كَانَ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ إلَى الْجِعْرَانَةِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ حُدُودِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ وَأَرْضُ حُنَيْنٍ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ وَبِثُبُوتِ الْأَمْنِ لِلْمُقِيمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَكَوْنُهَا مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا بِالْأَوَّلِ فَقَطْ.
وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ كَمَا قِيلَ بَلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِمُجَرَّدِ الْهَزِيمَةِ بَلْ فِي أَنَّ الْقِسْمَةَ هَلْ تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْكَنَكَ أَنْ تَجْعَلَ الدَّلِيلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى ذَلِكَ. وَتَقْرِيرُهُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ صِحَّتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَمَامِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى الْمُبَاحِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقِسْمُ مَلَكَ.
وَلَنَا مَنْعُ تَمَامِ السَّبَبِ فَلَا تُفِيدُ الْقِسْمَةُ الْمِلْكَ إلَّا عِنْدَ تَمَامِهِ وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِسْمَةَ إنَّمَا لَا تَصِحُّ إذَا قَسَمَ بِلَا اجْتِهَادٍ أَوْ اجْتَهَدَ فَوَقَعَ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ، أَمَّا إذَا قَسَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجْتَهِدًا فَلَا شَكَّ فِي الْجَوَازِ وَثُبُوتِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ» فَغَرِيبٌ جِدًّا. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ أَوْ فِي كَرَاهَتِهَا، فَقِيلَ: الْمُرَادُ عَدَمُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ الْأَحْكَامُ مِنْ حِلِّ الْوَطْءِ وَنَفَاذِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ.
وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ لَا بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُمْ إذَا اشْتَغَلُوا بِهَا يَتَكَاسَلُونَ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَرُبَّمَا يَتَفَرَّقُونَ، فَرُبَّمَا يَكُرُّ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ فَكَانَ الْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَا يُعْدَمُ الْجَوَازُ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَقْسِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا قَسَمَ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ» ، وَالْأَفْعَالُ الْمُتَّفِقَةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا تَكُونُ إلَّا لِدَاعٍ هِيَ كَرَاهَةُ خِلَافِهِ أَوْ بُطْلَانِهِ، وَالْكَرَاهَةُ أَدْنَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ. قِيلَ: وَنُقِلَ الْخِلَافُ هَكَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَبْسُوطِ غَيْرَ جَيِّدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ خِلَافٌ عَنْهُمْ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الْإِفْرَادِيَّةَ الْمَوْضُوعَةَ مُصَرِّحَةٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، مِثْلَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ لَا يُوَرَّثُ حَقُّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَنَّهُ لَا يُبَاعُ مِنْ ذَلِكَ الْعَلَفِ وَنَحْوِهِ شَيْءٌ، وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ، وَجَوَازُهُ قَبْلَهُ وَمُشَارَكَةُ الْمَدَدِ اللَّاحِقِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، ثُمَّ وَجْهُ الْكَرَاهَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ: