وَالْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ بِالنَّهْيِ الْمُتَأَخِّرِ هُوَ الْمَنْقُولُ
(وَلَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا مُقْعَدًا وَلَا أَعْمَى) لِأَنَّ الْمُبِيحَ لِلْقَتْلِ عِنْدَنَا هُوَ الْحِرَابُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا لَا يَقْتُلُ يَابِسُ الشَّقِّ وَالْمَقْطُوعُ الْيُمْنَى وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ يُخَالِفُنَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمُقْعَدِ وَالْأَعْمَى
ـــــــــــــــــــــــــــــQتُشْرَعْ أَوَّلًا لِأَنَّ مَا وَقَعَ لِلْعُرَنِيِّينَ كَانَ جَزَاءَ تَمْثِيلِهِمْ بِالرَّاعِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ «لَا تُمَثِّلُوا» عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ مُثْلَةِ الْعُرَنِيِّينَ فَظَاهِرُ نَسْخِهَا أَوْ لَا يُدْرَى فَيَتَعَارَضُ مُحَرَّمٌ وَمُبِيحٌ خُصُوصًا وَالْمَحْرَمُ قَوْلٌ فَيَتَقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ، وَكُلَّمَا تَعَارَضَ نَصَّانِ وَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا تَضَمَّنَ الْحُكْمَ بِنَسْخِ الْآخَرِ، وَرِوَايَةُ أَنَسٍ صَرِيحٌ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ جَنَى عَلَى جَمَاعَةٍ جِنَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةً لَيْسَ فِيهَا قَتْلٌ بِأَنْ قَطَعَ أَنْفَ رَجُلٍ وَأُذُنَيْ رَجُلٍ وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَقَطَعَ يَدَ آخَرَ وَرِجْلَ آخَرَ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَدَاءً لِحَقِّهِ، لَكِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَأْتَى بِكُلِّ قِصَاصٍ بَعْدَ الَّذِي قَبْلَهُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الرَّجُلُ مُمَثَّلًا بِهِ: أَيْ مُثْلَةً ضِمْنًا لَا قَصْدًا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ النَّهْيِ وَالنَّسْخِ فِيمَنْ مَثَّلَ بِشَخْصٍ حَتَّى قَتَلَهُ، فَمُقْتَضَى النَّسْخِ أَنْ يُقْتَلَ بِهِ ابْتِدَاءً وَلَا يُمَثَّلُ بِهِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا بَعْدَ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا وَقَعَ قِتَالًا كَمُبَارِزٍ ضَرَبَ فَقَطَعَ أُذُنَهُ ثُمَّ ضَرَبَ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَضَرَبَ فَقَطَعَ أَنْفَهُ وَيَدَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ
(قَوْلُهُ وَلَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا) أَخْرَجَ السِّتَّةُ إلَّا النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْتُولَةً فَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغْلُوا وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وَفِيهِ خَالِدُ بْنُ الْفَزَرِ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِذَاكَ، وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا الشُّيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبَقُوا شَرْخَهُمْ» ، فَأَضْعَفُ مِنْهُ ثُمَّ عَلَى أُصُولِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لَا مُعَارَضَةَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُخَصَّ الشُّيُوخَ بِغَيْرِ الْفَانِي، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الشَّيْخُ الْفَانِي لِيَخُصَّ الْعَامَّ مُطْلَقًا بِالْخَاصِّ. نَعَمْ يُعَارَضُ ظَاهِرًا بِمَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ «عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: هُمْ مِنْهُمْ» وَفِي لَفْظٍ " هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ " فَيَجِبُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ حَمْلَهُ عَلَى مَوْرِدِ السُّؤَالِ وَهُمْ الْمُبَيِّتُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِيهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ إلَى الصِّغَارِ بِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ التَّبْيِيتَ يَكُونُ مَعَهُ ذَلِكَ، وَالتَّبْيِيتُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا بِالْكَبْسَةِ، وَمَا الظَّنُّ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً» فَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْمُرَقَّعِ بْنِ صَيْفِيٍّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّهِ «رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَيْفِيٍّ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمَعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلًا