قَالَ (ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» . وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ عَلَى الذَّبْحِ قَالَ {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ثُمَّ قَالَ {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا. وَأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ إلَخْ) هَذَا دَلِيلٌ يَخُصُّ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْإِضَافَةِ، لَا أَنَّهُ يُفِيدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يُفِيضُ فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوَّلُهَا لِيَكُونَ دَلِيلَ السُّنَّةِ، وَيَثْبُتُ الْجَوَازُ فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَوَقْتُهُ أَيَّامَ النَّحْرِ إلَخْ، وَأَمَّا حَدِيثُ «أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا» فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ.

ثُمَّ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» قَالَ نَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ. وَاَلَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَنْ كُتُبِ السُّنَنِ خِلَافُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ «ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَهْمٌ.

وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِثْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ بِطَرِيقٍ فِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَإِذَا تَعَارَضَا وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ فَفِي مَكَّةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْلَى لِثُبُوتِ مُضَاعَفَةِ الْفَرَائِضِ فِيهِ. وَلَوْ تَجَشَّمْنَا الْجَمْعَ حَمَلْنَا فِعْلَهُ بِمِنًى عَلَى الْإِعَادَةِ بِسَبَبٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمُؤَدَّى أَوْ لَا (قَوْلُهُ فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا) يَعْنِي فَكَانَ وَقْتُ الذَّبْحِ وَقْتًا لِلطَّوَافِ لَا وَقْتَ الطَّوَافِ، فَإِنَّ الطَّوَافَ لَا يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ حَتَّى يَفُوتَ بِفَوَاتِهَا بَلْ وَقْتُهُ الْعُمْرُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَحِينَئِذٍ فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَطْفِ أَنَّهُ عَطْفُ طَلَبِ الطَّوَافِ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ الْمَلْزُومِ لِلذَّبْحِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فَكَانَ عَلَى الذَّبْحِ اللَّازِمِ.

وَمِنْ ضَرُورَةِ جَمْعِ طَلَبِهِمَا مُطْلَقًا إطْلَاقُ الْإِتْيَانِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ حِينِ يَتَحَقَّقُ وَقْتُ أَحَدِهِمَا، الذَّبْحُ يَتَحَقَّقُ وَقْتُهُ مِنْ فَجْرِ النَّحْرِ فَمِنْهُ يَتَحَقَّقُ وَقْتُ الطَّوَافِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَقْتَ الطَّوَافِ أَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَا مِنْ لَيْلَتِهِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَلَا آخِرَ لَهُ، بَلْ مُدَّةُ وَقْتِهِ الْعُمْرُ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ فِعْلُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَ هُمَا لِلسُّنَّةِ يُكْرَهُ خِلَافُهَا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015