ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . وَالْحَدِيثُ أَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ من حديث عمرة بْنِ مُرَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَى مُوسَى جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ لَا تَبْلُغُ مِرْفَقَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ فَأَدْخَلَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا قَالَ: تَكَبُّرُا وَقَدِ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ، وَهَذَا من التقديم والتأخير.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
لَمَّا فَرَغَ سبحانه من قصة موسى، شرع فِي قِصَّةِ دَاوُدَ، وَابْنِهِ سُلَيْمَانَ، وَهَذِهِ الْقِصَصُ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا هِيَ كَالْبَيَانِ وَالتَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وَالتَّنْوِينُ فِي عِلْماً إِمَّا لِلنَّوْعِ، أَيْ: طَائِفَةً مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: عِلْمًا كَثِيرًا، والواو فِي قَوْلِهِ: وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامُ الْفَاءِ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا عِلْمًا فَعَمِلَا بِهِ وَقَالَا الْحَمْدُ لله، ويؤيده أن الشكر باللسان، إنا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِعَمَلِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: فَضَّلَنَا بِالْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ وَتَسْخِيرِ الطَّيْرِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَلَمْ يُفَضِّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْكُلِّ تَوَاضُعًا مِنْهُمْ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَارْتِفَاعِ مَحَلِّهِ، وَأَنَّ نِعْمَةَ الْعِلْمِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي يُنْعِمُ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ فَقَدْ أُوتِيَ فَضْلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَمُنِحَ شَرَفًا جَلِيلًا وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي: ورثه الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا فَوَرِثَ سُلَيْمَانُ مِنْ بَيْنِهِمْ نُبُوَّتَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ وِرَاثَةُ الْمَالِ، لِمَ يَخُصَّ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَهَذِهِ الْوِرَاثَةُ هِيَ وِرَاثَةٌ مَجَازِيَّةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العلماء ورثة الأنبياء» وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ قَالَ سُلَيْمَانُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مُخَاطِبًا لِلنَّاسِ، تَحَدُّثًا بما أنعم