عُرُوشِها
أي على سقوفها، وذلك بسب تَعَطُّلِ سُكَّانِهَا حَتَّى تَهَدَّمَتْ فَسَقَطَتْ حِيطَانُهَا فَوْقَ سُقُوفِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَقَرَةِ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَرْيَةٍ، وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، وَمِنْ أَهْلِ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ هَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُعَطَّلَةِ الْمَتْرُوكَةُ. وَقِيلَ:
الْخَالِيَةُ عَنْ أَهْلِهَا لِهَلَاكِهِمْ، وَقِيلَ: الْغَائِرَةُ، وَقِيلَ: مُعَطَّلَةٌ مِنَ الدِّلَاءِ وَالْأَرْشِيَةِ، وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ: هُوَ الْمَرْفُوعُ الْبُنْيَانِ كَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
شَادَهُ مَرْمَرًا وجلّله كل ... سا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
شَادَهُ: أَيْ رَفَعَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ بِالْمَشِيدِ الْمُجَصَّصِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّيدِ، وَهُوَ الْجَصُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ (?) :
لَا تَحْسَبَنِّي وَإِنْ كُنْتُ امْرَأً غَمِرًا (?) ... كَحَيَّةِ الْمَاءِ بَيْنَ الطِّينِ وَالشِّيدِ
وَقِيلَ: الْمَشِيدُ الْحَصِينُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَشِيدُ الْمَعْمُولُ بِالشِّيدِ، وَالشِّيدُ بِالْكَسْرِ: كُلُّ شَيْءٍ طَلَيْتُ بِهِ الْحَائِطَ مِنْ جِصٍّ أَوْ بَلَاطٍ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ، تَقُولُ: شَادَهُ يَشِيدُهُ: جَصَّصَهُ، وَالْمُشَيَّدُ بِالتَّشْدِيدِ الْمُطَوَّلُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: لِلْوَاحِدِ مِنْ قوله تعالى: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَالْمَعْنَى الْمَعْنِيُّ: وَكَمْ مِنْ قَصْرٍ مُشَيَّدٍ مُعَطَّلٍ مِثْلِ الْبِئْرِ الْمُعَطَّلَةِ. وَمَعْنَى التَّعْطِيلُ فِي الْقَصْرِ هُوَ أَنَّهُ مُعَطَّلٌ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ آلَاتِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تفسيره: ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضر موت مَعْرُوفَانِ، فَالْقَصْرُ مُشْرِفٌ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ (?) لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَالْبِئْرُ فِي سَفْحِهِ لَا تُقِرُّ الرِّيحُ شَيْئًا سَقَطَ فِيهَا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ، وَأَصْحَابُ الْقَصْرِ مُلُوكُ الْحَضَرِ، وَأَصْحَابُ الْبِئْرِ مُلُوكُ البوادي. حَكَى الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْبِئْرَ كَانَ بَعَدَنَ مِنَ الْيَمَنِ فِي بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا حَضُورَاءُ، نَزَلَ بِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِمَّنْ آمَنَ بِصَالِحٍ، وَنَجَوَا مِنَ الْعَذَابِ، وَمَعَهُمْ صَالِحٌ، فَمَاتَ صَالِحٌ، فسمّي المكان حضر موت لِأَنَّ صَالِحًا لَمَّا حَضَرَهُ مَاتَ فَبَنَوْا حَضُورَاءَ وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَمَّا الْقَصْرُ الْمُشَيَّدُ فَقَصْرٌ بَنَاهُ شَدَّادُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ، لَمْ يُبْنَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ فِيمَا ذَكَرُوا وَزَعَمُوا، وَحَالُهُ أَيْضًا كَحَالِ هَذِهِ الْبِئْرِ الْمَذْكُورَةِ فِي إِيحَاشِهِ بَعْدَ الْأُنْسِ، وَإِقْفَارِهِ بَعْدَ الْعُمْرَانِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ عَلَى أَمْيَالٍ، لِمَا يَسْمَعُ فِيهِ مِنْ عَزِيفِ الْجِنِّ وَالْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَةِ بَعْدَ النَّعِيمِ وَالْعَيْشِ الرَّغَدِ وَبَهَاءِ الْمُلْكِ، وَانْتِظَامِ الْأَهْلِ كالسلك فبادوا وَمَا عَادُوا، فَذَكَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً.
قَالَ: وَقِيلَ إِنَّهُمُ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ (?) فَتَعَطَّلَتْ بِئْرُهُمْ وَخُرِّبَتْ قُصُورُهُمُ، انْتَهَى.
ثُمَّ أَنْكَرَ سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بِهَذِهِ الْآثَارِ قَائِلًا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى السَّفَرِ لِيَرَوْا مَصَارِعَ تِلْكَ الْأُمَمِ فَيَعْتَبِرُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ سَافَرُوا وَلَمْ يَعْتَبِرُوا، فَلِهَذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي