وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ انْشَقَّ الْقَمَر فلقَتَيْنِ قَالَ بن مَسْعُودٍ لَقَدْ رَأَيْتُ جَبَلَ حِرَاءَ مِنْ بَيْنِ فِلْقَتَيِ الْقَمَرِ وَهَذَا يُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى فِي ذِكْرِ حِرَاءَ وَقَدْ أَنْكَرَ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْآيَاتِ الْعُلْوِيَّةَ لَا يَتَهَيَّأُ فِيهَا الِانْخِرَاقُ وَالِالْتِئَامُ وَكَذَا قَالُوا فِي فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِنْكَارِهِمْ مَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ تَكْوِيرِ الشَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَوَابُ هَؤُلَاءِ إِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَنْ يُنَاظَرُوا أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ دِينِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يُشْرَكُوا مَعَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَتَى سَلَّمَ الْمُسْلِمُ بَعْضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ أُلْزِمَ التَّنَاقُضَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ مَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِانْخِرَاقِ وَالِالْتِئَامِ فِي الْقِيَامَةِ فَيَسْتَلْزِمُ جَوَازَ وُقُوعِ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَجَابَ الْقُدَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُوَافِقِينَ لِمُخَالِفِي الْمِلَّةِ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَلَا إِنْكَارَ لِلْعَقْلِ فِيهِ لِأَنَّ الْقَمَرَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَشَاءُ كَمَا يُكَوِّرُهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَيُفْنِيهِ وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ لَوْ وَقَعَ لَجَاءَ مُتَوَاتِرًا وَاشْتَرَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَلَمَا اخْتُصَّ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ فَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَيْلًا وَأَكْثَرُ النَّاسِ نِيَامٌ وَالْأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ وَقَلَّ مَنْ يُرَاصِدُ السَّمَاءَ إِلَّا النَّادِرَ وَقَدْ يَقَعُ بِالْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْكَسِفَ الْقَمَرُ وَتَبْدُو الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ وَلَا يُشَاهِدُهَا إِلَّا الْآحَادُ فَكَذَلِكَ الِانْشِقَاقُ كَانَ آيَةً وَقَعَتْ فِي اللَّيْلِ لِقَوْمٍ سَأَلُوا وَاقْتَرَحُوا فَلَمْ يَتَأَهَّبْ غَيْرُهُمْ لَهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ لَيْلَتَئِذٍ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ الَّتِي تَظْهَرُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْآفَاقِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا يَظْهَرُ الْكُسُوفُ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَكَادُ يَعْدِلُهَا شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ طِبَاعِ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الطَّبَائِعِ فَلَيْسَ مِمَّا يُطْمَعُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِحِيلَةٍ فَلِذَلِكَ صَارَ الْبُرْهَانُ بِهِ أَظْهَرَ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى عَوَامِّ النَّاسِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ صَدَرَ عَنْ حِسٍّ وَمُشَاهَدَةٍ فَالنَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ غَرِيبٍ وَنَقْلِ مَا لَمْ يُعْهَدْ فَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْلٌ لَخُلِّدَ فِي كُتُبِ أَهْلِ التَّسْيِيرِ وَالتَّنْجِيمِ إِذْ لَا يَجُوزُ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى تَرْكِهِ وَإِغْفَالِهِ مَعَ جَلَالَةِ شَأْنِهِ وَوُضُوحِ أَمْرِهِ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ خَرَجَتْ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لِأَنَّهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ خَاصٌّ مِنَ النَّاسِ فَوَقَعَ لَيْلًا لِأَنَّ الْقَمَرَ لَا سُلْطَانَ لَهُ بِالنَّهَارِ وَمِنْ شَأْنِ اللَّيْلِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِيهِ نِيَامًا وَمُسْتَكِنِّينَ بِالْأَبْنِيَةِ وَالْبَارِزُ بِالصَّحْرَاءِ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ يَقْظَانَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَشْغُولًا بِمَا يُلْهِيهِ مِنْ سَمَرٍ وَغَيْرِهِ وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَقْصِدُوا إِلَى مَرَاصِدَ مَرْكَزِ الْقَمَرِ نَاظِرِينَ إِلَيْهِ لَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنَّهُ وَقَعَ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَإِنَّمَا رَآهُ مَنْ تَصَدَّى لِرُؤْيَتِهِ مِمَّنِ اقْتَرَحَ وُقُوعَهُ وَلَعَلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي قَدْرِ اللَّحْظَةِ الَّتِي هِيَ مَدَرَكُ الْبَصَرِ ثُمَّ أَبْدَى حِكْمَةً بَالِغَةً فِي كَوْنِ الْمُعْجِزَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَمْ يَبْلُغْ شَيْءٌ مِنْهَا مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ إِلَّا الْقُرْآنَ بِمَا حَاصِلُهُ إنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ كَانَتْ إِذَا وَقَعَتْ عَامَّةً أَعْقَبَتْ هَلَاكَ مَنْ كَذَّبَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي إِدْرَاكِهَا بِالْحِسِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ رَحْمَةً فَكَانَتْ مُعْجِزَتُهُ الَّتِي تَحَدَّى بِهَا عَقْلِيَّةً فَاخْتُصَّ بِهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ بُعِثَ مِنْهُمْ لِمَا أُوتُوهُ مِنْ فَضْلِ الْعُقُولِ وَزِيَادَةِ الْأَفْهَامِ وَلَوْ كَانَ إِدْرَاكُهَا عَامًّا لَعُوجِلَ مَنْ كَذَّبَ بِهِ كَمَا عُوجِلَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَزَادَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَتِ الْآيَةُ فِي بَلْدَةٍ كَانَ عَامَّةُ أَهْلِهَا يَوْمَئِذٍ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا سِحْرٌ وَيَجْتَهِدُونَ فِي إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ قُلْتُ وَهُوَ جَيِّدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ سَأَلَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي قِلَّةِ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَمَّا مَنْ سَأَلَ عَنِ السَّبَبِ فِي كَوْنِ أَهْلِ التَّنْجِيمِ لَمْ يَذْكُرُوهُ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَفَاهُ وَهَذَا كَافٍ فَإِنَّ الْحُجَّةَ فِيمَنْ أَثْبَتَ لَا فِيمَنْ يُوجَدُ عَنْهُ صَرِيحُ النَّفْيِ حَتَّى