واسمح لي أن أسألك سؤالاً -بعد هذا-: ما دليلك على تخصيص عموم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بمسائل فقهية بسيطة؟! وما حجتك في تخصيصها بمسائل الفقه؟ ثم ما ضابط البساطة فيها؟! وهل المسائل الفقهية المتعلقة بالصلاة -مثلاً- أو بالزكاة، أو المتعلقة بالأنكحة والحدود، أو بغيرها من المسائل الكبرى= لا يعذر فيها المخالف؟! وهل قال بهذا التخصيص -الذي أشرت إليه- أحدٌ من أهل العلم؟!
دعني أضرب لك مثلاً بهذه المسألة من المسائل الفقهية التي وقع فيها خلاف قديم بين الصحابة، ومن أشهر المخالفين لجمهور الصحابة -ومن بعدهم- فيها: أمير المؤمنين علي، وابن عباس -رضي الله عنهما- وهي عدة الحامل التي مات عنها زوجها:
فجمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم، أن عدتها بوضع حملها، بينما ذهب أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وابن عباس -رضي الله عنهما- في أصح الروايتين عنه- إلى أنها تعتد بأطول الأجلين: إما الولادة، أو انتهاء العدة، فيا أخي: هل نؤثم علياً، أو ابن عباس لأنهما خالفا قوله تعالى -في سورة الطلاق-: "وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ"؟! معاذ الله! فلهم عذرهم وتأويلهم، وليس هذا مقام بحث المسألة فقهياً، إنما أردت أن أبين لك خطورة هذا التشطير للحديث، والتخصيص له من دون دليل علمي.
وأما قولك -غفر الله لك-: " ... لا في أطماع سياسة ... الخ" فكم تمنيت أن يعف لسانك عن هذا الكلام، فإن هذه تهمه خطيرة، وهي تدخلك في متاهات لا نهاية لها، ومحاذير كبيرة، وورطات عظيمة، إذ يلزم منها تفسيقُ وتضليل من قاتل علياً في وقعة الجمل! وهذا يجرك إلى الوقوع في المحذور الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "لا تسبوا أصحابي"، وسيترتب على هذا هدم جزءٍ من السنة ليس باليسير روته عائشة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، فضلاً عن بقية من كان معهم من الصحابة -رضي الله عن الجميع- إلى غير ذلك من المفاسد الكثيرة.
فضلاً عن مخالفة هذا كله، لما أخبر الله تعالى به عن أهل الإيمان الذين يأتون من بعد الصحابة -من المهاجرين والأنصار-، بقوله عنهم: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر:10] .
فقوله: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ" يشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة -جعلني الله وإياك منهم-.
فمن طعن في أحد من الصحابة بمثل هذه المسائل التي اجتهدوا فيها، فقد أعان على إخراج نفسه من هؤلاء الذين أثني عليهم في هذه الآية، ولهذا اتفق أهل السنة على أن أسلم طريق في التعامل مع هذه الفتنة الكبيرة، هو كف الألسن في الخوض في تفاصيلها -خصوصاً أمام عامة الناس- لأن الدخول في التفاصيل يوقع في إشكالات كثيرة -ذكرت بعضها قبل قليل-.