وقال السعدي: "يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة؛ فقال (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) أي حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه وتبين ضده، وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية والآيات الأفقية والنفسية، لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ) ,.. (وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) ، وهو هذا القرآن العظيم الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره" [تفسير السعدي (ج1ص217) ] .
فإنزال القرآن -إذن- بلفظ النور تصوير للتشريف بجامع جلاء الطريق والاهتداء, وهكذا ترى أن التصوير يجسد الدلالة ويطلق العنان لتوارد فيض من المضامين، فيبلغ بالتعبير أعلى المراتب في البيان.
وقد ورد فعل (الإنزال) ليفيد الانتقال من الأعلى نحو الأسفل، كما في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً" [البقرة: 22] , وأما قوله تعالى: "وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ" [الحديد: 25] ؛ فيمكن حمله على النزول إلى لب الأرض لانتفاء ما يصرف عن الظاهر, ولا يجادل اليوم أحد بالفعل أن معظم لب الأرض حديد, فطابقت شهادة الواقع صريح التعبير, ولكن القرائن الصارفة قد تمنع حمل (الإنزال) على الظاهر، كأن يكون الموصوف من المعنويات، كما في قوله تعالى: "هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ" [الفتح: 4] , والقرينة أن السكينة حالة شعورية وليست تكويناً مادياً, ولذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه صرف النزول إلى (الجعل) بقوله: " (أَنزَلَ السّكِينَةَ) أي جعل الطمأنينة" [تفسير ابن كثير (ج4ص185) ] .