وما أحسن قول الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى عندما سأله هارون الرشيد: يا مالك، كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قربهما منه في حياته، كقرب مضجعهما من مضجعه بعد وفاته، فقال هارون: شفيتني يا مالك، شفيتني يا مالك. أخرجه الزبير بن بكار في جمهرة نسب قريش (2/584) ، والآجري في الشريعة (1849) ، وغيرهما بإسناد صحيح، فإذا اطمأن القلب بتلك النصوص والأدلة والشواهد المحكمة الواضحة، فأعرض على قلبك بعدها تلك الشبهة، هل يبقى لها أثر؟ ومع ذلك فقد أجاب العلماء عن ذلك الحديث، وبينوا حقيقته، ومن أحسن الأجوبة: هو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الطلب، الذي فيه معنى دنو الأجل واقتراب ساعة الوفاة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابته دهشة وحيرة في ذلك المقام العظيم والمصاب الجسيم، كما أصابه ذلك بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يكذب من يقول بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتوعده بالقتل، من عظيم حبه وتعلقه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فحملته تلك الحيرة والدهشة، مع علمه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر، يعتريه ما يعتري البشر من المرض والحمى وآثارهما، إلى أن يظن أن هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام من أثر مرضه وأثناء غيبوبته من الحمى. وانظر أجوبة أخرى في (المُعْلِم) للمازري (2/234) ، وإكمال المعلم للقاضي عياض (5/379 - 382) ، والمفهم للقرطبي (4/559 - 560) ، وفتح الباري لابن حجر (7/739 - 740) .
ثم إننا لا نشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة على الوجه الأكمل، فلو لم يكن فيما بلغه لأمته كفاية لها، ولو لم يكن ما أراد ذكره وكتابته ساعة وفاته قد سبق منه ما يدل عليه، ولو كانت دلالته فيها شيء من الخفاء، لولا ذلك كله لما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - البلاغ والبيان لمجرد ذلك التنازع الذي حصل بمحضره - صلى الله عليه وسلم - وإلا فقد وقع بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبمحضره اختلافات عدّة أثناء حياته - صلى الله عليه وسلم -، فلم يمنع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - من البيان والبلاغ، لما كان البلاغ والبيان مما لا غنية للمسلمين عنه من شؤون دينهم.
وعلى هذا، فإن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للكتابة بعد استفاقته من غيبوبته، يدل على أن ما أراد كتابته موجود في كتاب الله تعالى وسنته - صلى الله عليه وسلم - ولو على وجه يحتاج إلى اجتهاد واستنباط للوصول إليه.
وبهذا يتبين أنه لم يقع من عمر - رضي الله عنه - أمر يحتاج إلى طول اعتذار، ولا هناك شبهة قوية تقدح في مكانة الفاروق - رضي الله عنه - بل لم يزل - رضي الله عنه- ولا يزال خير هذه الأمة بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبعد أبي بكر، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه.
والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه.