فهذا الخبر على وجازته: أثبت أصل القصّة ووضع كل أمر في نصابه، واعتذر لخالد -رضي الله عنه- ونفى تلك التهمة القبيحة عن مالك بن نويرة بدفع أبي بكر ديته إلى أوليائه.
يبقى أن في بقية الأخبار تفاصيل أخرى لا يمكن أن نفهم الخبر السابق بغير الاطلاع عليها، فما العمل تجاهها؟
فالعمل، هو: أن نأخذ من تلك الأخبار ما يوافق هذا الخبر الثابت من جهة، وما لا يقدح في عدالة الصحابة الثابتة بالنصوص القطعيّة من جهة أخرى؛ لأنها أخبار لا تثبت أسانيدها أولاً، وثانياً: لأن ما عارض تلك الثوابت سيعد منها منكراً، ليس من العدل والإنصاف أن نجعله متساوياً لتلك الثوابت، فضلاً عن أن نعتمده، فنكون قد قدّمنا ما حقه الإبعاد، ونستحق بذلك -عياذاً بالله- أن نعد من أهل الهوى والظلم في الأحكام.
فإذا جئنا لأخبار تاريخية بعد ذلك، مما وقع في القرن الهجري الثاني أو الثالث، فالأصل فيها إمرارها والاستفادة منها دون نقد حديثي محتاط، إلا إذا أراد أحد أن يصدر حكماً دينياً على شخص من الأشخاص له حرمة دينية، وهو أن يكون مسلماً -كبعض الملوك والسلاطين- فإننا لا نقبل ذلك إلا بنقد يثبت بمثله الحكم الديني، هذا إن كان لمثل هذا البحث ثمرة علمية، أما إن لم يكن له ثمرة، أو كان له ثمرة خبيثة؛ فينهى عن مثل هذا البحث، وعن إضاعة الوقت فيه.
وإذا جئنا إلى سير العلماء وأخبارهم، فالضابط الكلي سائر على تراجمهم، فإن ما يرد في تراجمهم إذا كان سيصدر عنه حكم ديني، وضعناه في معياره المحتاط، وأوضح صور هذا الحكم الديني عبارات الجرح والتعديل في رواة السنة، وإن كان بخلاف ذلك، كقصة البخاري السابقة، أو كعبارات في الوعظ والحكمة، أو كذكر مؤلفاتهم، أو وصف مكتباتهم، ونحو ذلك من الأخبار، فهذه لا تنقد بذلك النقد المحتاط، ولكن تنقد لمعايير أخرى، تراعي المعقول وغير المعقول، والثقة بناقل الخبر أي: المصدر ومؤلفه، وغير ذلك من القرائن المحتفّة بكل خبر منها، وللمصلحة الحاصلة من نقده أيضاً.
هذا ملخّص ما ترجح لدي في شأن نقد القصص والأخبار التاريخيّة، والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.