فما تقوم به الأختان الكريمتان اللتان هما أكبر سنّاً منك، هو من التنطع المذموم الذي جاءت النصوص الشرعية بالتحذير منه، ومن مغبة الوقوع في شركه، ومنها قول نبينا - صلى الله عليه ونسلم-: "هلك المتنطعون هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" أخرجه مسلم في صحيحه (2670) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-، قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/220) ، تعليقاً على هذا الحديث: "أي: المتعمقون، الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم" ا. هـ، ولا شك أن ما تقوم به هاتان الأختان هو من التنطع في الأفعال، وهو من الوسواس الذي ابتُلى به كثير من الناس، ومما قيل في تفسير التنطع الوارد في الحديث المتقدم ما ذكره المناوي في فيض القدير (6/355) ، حيث قال: "الغالون في عبادتهم، بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة" ا. هـ. فالمبالغة في التنظف والتحرز من النجاسة على هذا النحو الذي تقومان به في البيت من الوسواس المذموم، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله - صلى الله عليه وسلم- وصحابته - رضي الله عنهم-، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولذا قال العلامة ابن القيم في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/136) ، ما نصه: "ولو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الموسوسين لمقتهم ولو أدركهم عمر - رضي الله عنه- لضربهم وأدبهم ولو أدركهم الصحابة- رضي الله عنهم- لبدعوهم". ثم ذكر ابن القيم - رحمه الله- بعضاً من هدى النبي - صلى الله عليه وسلم- وصحابته - رضي الله عنهم- فيما يتعلق بالتحرز من النجاسة والنظافة من الأقذار، خلافاً لما عليه المتشددون وأهل الوسوسة، فقال في إغاثة اللهفان (1/144-159) : "ومن ذلك أشياء سهَّل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة، فشدد فيها هؤلاء، فمن ذلك المشي حافياً في الطرقات، ثم يصلي ولا يغسل رجليه، فقد روى أبو داود في سننه عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لَنَا طَرِيقًا إِلَى الْمَسْجِدِ مُنْتِنَةً - من النتن أي ذات نجاسة- فَكَيْفَ نَفْعَلُ إِذَا مُطِرْنَا؟ قَالَ: أَلَيْسَ بَعْدَه طَرِيقٌ هِيَ أَطْيَبُ - أي أطهر- مِنْهَا؟ ". قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: "فَهَذِهِ بِهَذِهِ". وقال حفص: أقبلت مع عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- عامدين إلى المسجد فلما انتهينا عدلت إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابها، فقال عبد الله - رضي الله عنه-: لا تفعل، فإنك تطأ الموطيء الرديء - يعني النجس- ثم تطأ بعده الموطئ الطيب- يعني الطاهر - أو قال: النظيف، فيكون ذلك طهوراً، فدخلنا المسجد جميعاً فصلينا"، وقال أبو الشعثاء: "كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافياً، ثم يدخل المسجد فيصلي فيه، ولا يغسل قدميه"، ا. هـ، ثم ذكر ابن القيم مثالاً آخر فقال: "ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزأ دلكه بالأرض، وجازت الصلاة فيه - يعني في الحذاء- بالسنة الثابتة؛ لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور". وفي لفظ: "إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب"، رواهما أبو