فأولاً: فيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ورأفته بالمتعلم ولطفه به، وهكذا ينبغي أن يكون المعلم والمربي والعالِم والمسؤول في كل عصر ومصر، ينبغي أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، وبالآداب الكريمة مع الناس، حتى ولو وقع منهم سلوك مشين، كما وقع من هذا الأعرابي.
وثانياً: فيه وجوب الرفق بالجاهل، وعدم التعنيف عليه، وأنه يجب التفريق في المعاملة بين من يقع في المنكر وهو عالم به مصر عليه، وبين من يقع فيه وهو جاهل به، وأن الداعية والعالم ينبغي أن يكون ميسراً لا معسراً، في حدود الشرع.
وثالثاً: فيه بيان تعظيم المساجد، ووجوب احترامها، وتنزيهها عن الأقذار، أيًّا كان بناؤها؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا البول ولا القذر ... ". فلفظ (المساجد) هو من صيغ العموم؛ فتعم كل مسجد في القديم أو في الحاضر، فلا يجوز البول فيها، ولا تقذيرها بأي لون من ألوان القاذورات، سواء بالبصاق فيها - كما يفعله بعض الناس اليوم، حيث يبصق في ساحة المسجد الواقعة داخل السور- أو بإلقاء النفايات والمناديل داخل أروقة المسجد ... إلخ.
والتعبير بالقذر في الحديث يشمل كل ما يتقذر منه الناس، ويخالف الذوق العام، وينافي حرمة المسجد.
ورابعاً: فيه دلالة على نجاسة بول الآدمي، وهو محل إجماع عند أهل العلم، كما حكاه الصنعاني في سبل السلام (1/25) ، وغيره.
وخامساً: فيه تقرير قاعدة عظيمة في الدين، وهي (دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما) ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حين ترك هذا الأعرابي حتى يتم بوله، كان ذلك لأجل ألا يترتب على منعه أن يقوم فيلوِّث ثيابه وبدنه، ويلوِّث أجزاء أخرى من المسجد فيؤدي إلى انتشار النجاسة، وتنجيس مكان واحد أخف من تنجيس أماكن متفرقة من المسجد، وهذه القاعدة الشرعية أشار إليها المازري، وكما في شرح الزرقاني (1/190) ، ويتخرج على هذه القاعدة ما لا يحصى من النوازل الفقهية في باب السياسة الشرعية، وفي باب المعاملات المالية المعاصرة، وفي باب الطب الحديث، وغيرها من الأبواب، ومن ذلك على سبيل المثال نازلة رفع أجهزة الإنعاش عند الموت الدماغي في بعض صوره الجائزة، فالحاصل أن هذه القاعدة قد استنبطت من عدة نصوص، ومنها هذا الحديث النبوي الشريف.
وسادساً: فيه جواز التمسك بالعموم حتى يظهر دليل التخصيص، وهي مسألة أصولية مشهورة، ويترتب عليها فوائد كثيرة، ليس هذا الجواب محل بسطها.
وسابعاً: فيه وجوب إزالة المفاسد عند زوال المانع؛ لأمره صلى الله عليه وسلم صحابته بصب الماء عند فراغه من البول.
وثامناً: فيه أن الماء أداة من أدوات التطهير، وأنه لا يشترط حفر الأرض إذا وقعت عليها النجاسة، خلافاً للحنفية.
وتاسعاً: فيه أنه لا ينبغي قطع البول على من شرع فيه؛ لما قد يؤدي إليه من مفاسد صحية، وربما جاء الطب الحديث بما يؤيد هذا، فقد اكتشف الطب الحديث علوماً كثيرة، كان قد ذكرها القرآن الكريم، والرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أشار إليها قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة.
ومنها، وهي الفائدة العاشرة: