ثانياً: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على سنية عقد النكاح في المسجد. انظر مثلاً فتح القدير لابن الهمام (3/184) ، حاشية الروض المربع لابن قاسم (6/243) ، ففي مختصر خليل: (وجاز بمسجد..عقد نكاح) انظر جواهر الإكليل (2/302) ، التاج والإكليل (6/12) ، وفي مجموع الفتاوى لشيح الإسلام ابن تيمية (32/18) : (ويستحب عقده في المساجد) ، وفي الروض مع حاشيته: (ويسن بالمسجد ذكره ابن القيم - رحمه الله- وهو إمام ثقة لا يذكر ما يسن إلا بأصل شرعي للسنية) .
ثالثاً: المقصد من جعل العقد في المسجد أنه رجاء الحصول على بركة المكان، وقد صرح بذلك في تحفة الأحوذي (4/210) ، إذ قال: (واجعلوه في المساجد وهو إما لأنه أدعى للإعلان أو لحصول بركة المكان) .
ولا شك أن هناك أمكنة جعل الله فيها بركة عظيمة ومنها المساجد.
وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها". والمسجد الحرام حظه من ذلك أوفر؛ وقد قال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" [الإسراء: 1] .
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مكة: "إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله" رواه أحمد (4/305) ، والحاكم (3/7) ، بسند صحيح، ولكن يبقى النظر في طريقة استمداد هذه البركة من المكان.
وفي صحيح مسلم (1423) ، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تزوجني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شوال وبنى بي في شوال، فأي نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أحظى عنده مني؟) .
قال عروة: (وكانت عائشة - رضي الله عنها- تستحب أن تدخل نساءها في شوال) . وفي هذا الحديث أمران: أحدهما: نبذ ما كان عليه أهل الجاهلية من كراهية التزويج والدخول في شوال.
والثاني: متابعة الفعل المجرد للنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يظهر تقصده له؛ إذ لو تقصده لصرحت بذلك، إذ إن استدلالها به أبلغ من استدلالها بمجرد فعله.
وإذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم- عقد زواجاً بالمسجد كما سبق في حديث الواهبة، كان فعله المجرد مانعاً من اعتبار تقصد عقد النكاح في المسجد محدثاً إذ الزمان الفاضل كالمكان الفاضل.
والخلاصة مما سبق: أن تقصد إجراء عقد النكاح في المسجد الحرام مباح ليس من البدع ولا المحدثات، وأما الحكم باستحباب عقد النكاح في المسجد، فهذا مما لم يرد فيه دليل فلا يحكم فيه بسنية، كما لا ينكر على من استحبه لوجود من قال بذلك من كبار العلماء. والله أعلم.