المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 15/1/1425هـ
السؤال
ارجو أن توضحوا لي باختصار ما معنى: (الجرح والتعديل؟) ومن يقوم به؟ ومن أين جاء؟ مع الأدلة.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعد:
الجرح في اللغة: التأثير في الجسم بالسلاح ونحوه، يقال: جرحه جرحاً إذا أثر فيه، ويكون الجرح معنوياً فيقال: جرحه بلسانه أي: شتمه، وسبه، وقال بعض أئمة اللغة: (الجُرح- بالضم - يكون في الأبدان بالحديد ونحوه، والجَرح - بالفتح - يكون باللسان في المعاني والأعراض ونحوها.
وقد استعمل المحدثون الجرح في نقد الرواة والمقصود به: وصف الراوي بما يقتضي تليين روايته أو تضعيفها أو ردها، مثل قولهم: لين الحديث، سيىء الحفظ، مجهول، متروك، متهم بالكذب، كذاب، وضاع.
والتعديل في اللغة: التسوية، وتقويم الشيء وهو ضد الجور.. والتعديل عند المحدثين: وصف الراوي بما يقتضي قبول روايته، مثل قولهم: ثقة متقن، ثقة ثبت، ثقة، حجة، صدوق، لا بأس به، وذلك إذا تحقق فيه شرطان هما: عدالة الراوي وضبطه، كما أن جرح الراوي يكون بسبب اختلال هذين الشرطين أو أحدهما.... والمراد بالعدالة: ملكة تحمل المرء على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة، وأما المروءة فآداب تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، ويرجع في معرفتها إلى العُرْف، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والبلدان.
والمراد بالضبط: الضبط نوعان هما: ضبط الصدر وضبط الكتاب، فضبط الصدر: أن يكون الراوي يقظاً غير مُغَفَّل بل يحفظ ما سمعه ويُثْبِتُه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، مع علمه بما يحيل المعاني إن روى بالمعنى.
وضبط الكتاب: صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه، والأدلة على اعتبار العدالة والضبط في الرواة: الأصل في اعتبار عدالة الراوي قوله -تعالى-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" [الحجرات: 6] ، ووجه الدلالة أن الآية نص في وجوب التبين والتثبت من حقيقة خبر الفاسق.
والأصل في اعتبار الضبط الحديث المشهور: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه..... "الحديث أخرجه الترمذي (2580) وغيره من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وفي بعض رواياته: ".... سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع" عند الترمذي (2657) ، ووجه الدلالة:
(1) أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فحفظها) نص على الحفظ، وهو يشمل الحفظ في الصدر وفي الكتاب.
(2) وقوله: " فبلغه كما سمع " نص على اعتبار الضبط عند الأداء، وجرح الرواة بقدر الحاجة لا يعد من الغيبة المحرمة بإجماع المسلمين، بل هو واجب إذ يترتب عليه تميز ما يقبل من الأحاديث، وما يرد منها، ومن الأدلة على جواز الغيبة لغرض شرعي: ما أخرجه البخاري (6032) ، ومسلم (2591) من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن رجلاً استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة"فلما جلس تَطَلَّقَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة- رضي الله عنها-: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشة متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره " وفي رواية عند مسلم: " اتقاء فحشه ".
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- تكلم في ذلك الرجل على وجه الذم لما كان في ذلك مصلحة شرعية، وهي التنبيه إلى سوء خلقه ليحذره السامع كما يفيده قوله: " إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه " سبق تخريجه، ولذلك تطلق في وجهه وانبسط إليه مداراة له لا مداهنة، وتثبت عدالة الراوي بأحد أمرين:
الأمر الأول: الاستفاضة بأن يشتهر الراوي بالصدق والأمانة والاستقامة، ويعرف بالضبط والإتقان والعلم، مثل الأئمة الأعلام كمالك وأحمد والشافعي، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر، والاشتهار بالصدق والبصيرة والفهم.
الأمر الثاني: تنصيص الأئمة على عدالة الراوي، ويكفي تعديل الإمام الواحد على القول الراجح قياساً على قبول خبر الراوي الثقة عند تفرده، ويعرف الأئمة عدالة الراوي بتتبع سيرته وحياته، وهذا يقوم به من عايش هذا الراوي، وقد يستدل على عدالة الراوي بتمعن أحاديثه، وأما ضبط الراوي فيعرف بعرض رواياته على أقرانه ممن يروي عن شيخه، فإذا وافق الثقات صار ضابطاً، وإذا خالفهم اختل ضبطه، وهو درجات، وقد يعرف ضبط الراوي باختباره مباشرة من قبل أحد الأئمة، والذي يقوم باختبار ضبط الراوي ومعرفته لعدالته هم أئمة الجرح والتعديل: كأحمد، وابن معين، وابن المديني، والبخاري وغيرهم، فالإمام أحمد أو غيره من الأئمة مثلاً عندما يقول: فلان في أحاديثه اضطراب يكون عرف ذلك بتتبع مروياته ودراسة أحاديثه. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.