وبعد: فإن ضعف هذه الأحاديث الواردة بخصوص الحث على صيام أيام العشر، لا يلغي مشروعية صيامها؛ لأنها بلا شك من جملة العمل الصالح الذي ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري وغيره ـ كما سبق آنفاً ـ. فإن قيل: ما لجواب عن قول عائشة رضي الله عنها ـ الذي سبق قريباً ـ: "ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - صائماً العشر قط " أفلا يدل ذلك على استثناء الصيام؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن النبي – صلى الله عليه وسلم - ربما ترك العمل خشية أن يفرض على أمته ـ كما في الصحيحين من حديث عائشة ـ أو لعلة أخرى قد لا تظهر لنا، كتركه قيام الليل، وكتركه هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأمثلة ذلك كثيرة. ومن جملة هذه الموانع، أن تركه – صلى الله عليه وسلم - لصيام العشر قد يكون لأن الصيام فيه نوع كلفة، ولديه – صلى الله عليه وسلم - من المهام العظيمة المتعدي نفعها للأمة من تبليغ الرسالة، والجهاد في سبيله، واستقبال الوفود، وإرسال الرسل، وكتابة الكتب، وغيرها من الأعمال الجسام، فلو صام كل هذه الأيام لربما حصل فيها نوع مشقة، بل ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أنه لما سأل عن صيام يوم وإفطار يوم قال" وددت أني طوقت ذلك".