أصل العبادات والمعاملات

المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/أدلة الأحكام

التاريخ 16/11/1425هـ

السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم

كثيرًا ما نناقش هنا في التحريم علته وسببه، أو الحكمة منه، وسؤالي يتقرر في تفاصيل متفرقة: ما الأصل في العبادات، وما الأصل في المعاملات، ما الأصل في اللباس، ما الأصل في المطعوم والمشروب، ما الأصل في الألعاب والترفيه؟ ثم إذا كان هناك تحريم، فهل على المسلم تطبيقه دون فهم ووعي لعلته، أم يجب عليه الفهم ثم التطبيق؟ وإن كان مطبقًا لأمر الله لا محالة، فهل من الأفضل له أن يعي ثم يطبق، أم يمتثل على غير فهم؟ ومن ذلك مثلًا علة تحريم أكل لحم الخنزير أو غيرها مما لم يرد فيه توجيه لتحريمه إلا النص المتبع. والله يرعاكم.

الجواب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

دلَّت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على الأصل المقدَّم في سائر الأمور، ومنها: العبادات، والمعاملات، واللِّباس، والأطعمة والمشروبات، والألعاب والترفيه، ومعرفة الأصل في هذه الأمور مهمٌّ جدًّا؛ لأن الإنسان إذا أشكل عليه حكم أمرٍ من الأمور فإنه يعمل بما هو الأصل فيها، فإن كان الأصل الإباحة أقدم عليه، وإن كان الأصل التحريم أحجم عنه. وأذكر الآن الأصل في الأمور التي سأل عنها السائل.

الأصل في العبادات التوقيف، ومعنى التوقيف أننا لا نتعبَّد لله تعالى، بأي عبادةٍ إلا إذا دلَّ الدليل المعتبر على مشروعيتها، فإن لم يدلّ على مشروعيتها دليلٌ معتبر فإنها لا تكون مشروعةً، ولا يجوز أن نتعبدَّ لله بها، مثلًا: لا يُشرع للإنسان أن يتقرَّب إلى الله عز وجلَّ، بالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الأمر عبادة، والأصل في العبادات التوقيف، ولم يأتِ في النصوص الشرعية ما يدل على مشروعية هذا الأمر، فلا يكون مشروعًا.

والأصل في المعاملات واللِّباس والأطعمة والمشروبات والألعاب والترفيه الحلُّ والإباحة، فإذا جاء دليلٌ من الشارع يحرِّم شيئًا منها فإنه محرَّمٌ؛ لورود الدليل على تحريمه، وإن لم يأتِ دليلٌ من الشارع يدل على تحريم شيءٍ منها فإنه جائزٌ مباحٌ؛ لأن الأصل في هذه الأمور الجواز والإباحة، فمثلًا: يجوز للناس التعامل بكل المعاملات التي لم يحرِّمها الشارع، ويجوز لهم لبس جميع الملابس التي لم يحرِّمها الشارع، ويجوز لهم أكل وشرب كل ما لم يحرِّمه الشارع، وهكذا في الألعاب والترفيه.

أما ما يتعلَّق بمعرفة العلة: فإذا جاء أمرٌ أو نهيٌ من الشارع فإن الواجب على المكلفين امتثال الأمر واجتناب النهي، ولا يتوقف ذلك على معرفة علة الأمر والنهي، ولا يُفهم من هذا الكلام أن الإنسان لا يُشرع له البحث عن علة الأحكام الشرعية، بل هو مطلوبٌ ومرغَّبٌ فيه شرعًا، لأن الإنسان إذا عرف علة الأمر أو النهي فإن هذا يكون دافعًا ومشجعًا على الامتثال، إضافةً إلى أن معرفة علة الأحكام الشرعية طريقٌ من طرق معرفة أحكام الحوادث والنوازل التي لم يُنصَّ على حكمها، وذلك عن طريق القياس، فإذا عرفنا علة تحريم أمرٍ ما، ثم وجدنا هذه العلة في أمرٍ آخر لم يُنصَّ على حكمه، فإنا نقيسه على ذلك الأمر المحرم، فيكون محرَّمًا؛ لاشتراكهما في علة التحريم.

ونحن نقول إن الواجب على المسلم امتثال أوامر الشارع واجتناب نواهيه من غير أن يتوقف على معرفة العلة وفهمها؛ لأن كثيرًا من الأحكام لا يمكن معرفة العلة فيه، وهي الأحكام التعبدية، كما يسميها بعض أهل العلم، مثل: علة مسح أعلى الخفِّ وترك أسفله، وعلة الوضوء من المذي مع نجاسته والغسل من المني مع طهارته، وعلة نضح بول الصبي وغسل بول الجارية، والحكمة من تقبيل الحجر الأسود، ونحو ذلك. ولو كان الأمر متوقفًا على معرفة العلة وفهمها لما أمكن تطبيق هذه الأمور وامتثالها.

وأختم الجواب بالإشارة إلى أن هناك كتبًا عديدة تناولت مسألة تعليل الأحكام الشرعية، وبيَّنت أهميتها وأثرها وما يتعلق بها، وهذه الكتب على صنفين:

الصنف الأول: الكتب المؤلفة في أصول الفقه، حيث تكلم الأصوليون عن هذه المسألة في مباحث القياس، وذلك في باب العلة وما يُشترط لها.

الثاني: الكتب المؤلفة في مقاصد الشريعة، حيث تكلم مؤلفو هذه الكتب عن مقاصد الشارع في كثيرٍ من الأحكام، وبينوا أن معرفة مقاصد الشريعة من أحكامها متوقفٌ على معرفة علل هذه الأحكام، فإن عُرفت عرف مقصد الشارع فيها، وإن جُهلت جُهل مقصد الشارع فيها.

والله الموفق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015