المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/أدلة الأحكام
التاريخ 7/10/1424هـ
السؤال
السلام عليكم.
هل يمكن أن يعارض حديث صحيح القرآن الكريم؟ هل يمكن أن ينسخ حديث صحيح حكماً من أحكام القرآن، أو يضيف حكماً إضافياً لحكم ثابت بالقرآن؟ أرجو التوضيح بأمثلة على كل مسألة، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: يقول الله سبحانه وتعالى:"ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" [النساء: 82] ، وانطلاقاً من هذه الآية الكريمة ومثيلاتها فإن النصوص الشرعية-من الكتاب والسنة- يصدق بعضها بعضاً، ويؤكد بعضها ما يدل عليه البعض الآخر. ونتيجةً لهذا الترابط بين الأدلة الشرعية فإنه لا يمكن ولا يتصور أن يقع تعارض حقيقي بين دلالات النصوص الشرعية، بحيث يدل بعضها على حكم وبعضها الآخر على حكم مخالف للحكم الأول، بحيث لا يمكن الجمع بينهما.
وقد يقول قائل: كيف يقرر هذا الأمر ونحن نجد كثيراً من الأدلة الشرعية حكم العلماء بوقوع التعارض بينها، ومصداقاً لذلك فإنهم وضعوا القواعد والضوابط التي يجب أن يراعيها الإنسان عندما يعرض له دليلان متعارضان كل منهما يدل على خلاف ما يدل عليه الآخر؟ وهذا يدل على وقوع التعارض بين الأدلة الشرعية. فيقال: إن التعارض بين الأدلة الشرعية ليس واقعاً في نفس الأمر وحقيقته؛ لأن الأدلة الشرعية منزَّهة عن الاضطراب والخلل؛ لأنها منزلة من أحكم الحاكمين الذي خلق فأحسن ما خلق وشرع فأحكم ما شرع، وإنما هو في نظر الإنسان فقط، نتيجةً لقصور فهمه، ويؤيد هذا أنه قد يتعارض عند إنسان أدلةٌ لا تتعارض عند غيره، مما يدل على أن هذا التعارض ليس في حقيقة الأمر. ومن خلال ما سبق يتبين أنه لا يمكن أن يتعارض دليلان صحيحان أبداً سواءٌ أكانا من الكتاب أو من السنة أو منهما، ولكن إذا عرض للإنسان دليلان يظهر أنهما متعارضان، فإن الواجب عليه أن يسلك طرق دفع التعارض ورفعه التي قررها أهل العلم، وهي:
(1) الجمع بينهما، وهو أول الطرق وأولاها؛ لأن الجمع بين الدليلين فيه عمل بكلا الدليلين، وهو المتعين عند القدرة عليه، قال الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه (المجلد الثاني 222-223) : (ما من نصين صحيحين متخالفين إلا ويمكن الجمع بينهما) .
ويمكن التمثيل لهذا الطريق بالتعارض الذي يظهر بادئ الأمر بين قوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" [المائدة: 38] .
وقوله عليه الصلاة والسلام:"لا تقطع اليد إلا في ربع دينارٍ فما فوقه" أخرجه البخاري (6790) ، ومسلم (1684) من حديث عائشة -رضي الله عنها- ووجه التعارض هنا: أن الآية تفيد قطع يد كل سارق سواءٌ أسرق كثيراً من المال أو قليلاً، والحديث يفيد أن القطع لا يكون إلا لمن سرق ربع دينارٍ فصاعداً، ولكن هذا النوع من التعارض ليس حقيقياً، ولذلك فإنه يدفع بوجهٍ من وجوه الجمع، وهو حمل العام على الخاص، حيث نخصص عموم الآية بالحديث فنقطع يد كل من سرق ربع دينارٍ فصاعداً ولا نقطع يد من سرق أقل من ذلك، وفي هذا الجمع عمل بكلا الدليلين. فإن تعذر الجمع بين الدليلين المتعارضين بأي وجهٍ من وجوه الجمع انتقلنا إلى الطريق الثاني، وهو:
(2) النسخ، فنحكم بأن أحد الدليلين المتعارضين ناسخٌ لحكم الدليل الآخر، فنعمل بالدليل الناسخ ونترك الدليل المنسوخ، ولكن هذا الطريق مشروط بمعرفة تاريخ كلٍ من النصين؛ لأن النسخ عبارة عن رفع حكم الدليل الأول بالدليل الثاني المتأخر عنه، وإذا جهلنا التاريخ لم نعرف المتقدم من المتأخر، فلا نستطيع معرفة الناسخ من المنسوخ. ويمكن التمثيل لهذا الطريق بقوله تعالى:"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهم أربعةً منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً " فإن هذه الآية دالة على أن المرأة إذا اقترفت الفاحشة وثبتت عليها فإنها تمسك في البيوت حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلاً، إلا أن هذه الآية منسوخة بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" خذوا عني، خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة أو الرجم ". (رواه مسلم، كتاب: الحدود، باب: حد الزنى، رقم الحديث: 4414) ، وكذلك آية الوصية للوالدين والأقربين، وهي قوله تعالى:" كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين" نُسخت بقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" (رواه أبو داود، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية للوارث، رقم الحديث: (2870) ، والترمذي، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء لا وصية لوارث، رقم الحديث: (2120) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) فإن تعذَّر معرفة الناسخ من المنسوخ من الدليلين المتعارضين فإنا ننتقل إلى الطريق الثالث، وهو:
3- الترجيح، فإذا تعارض عند الإنسان دليلان ولم يستطع الجمع بينهما، وتعذَّر عليه معرفة الناسخ من المنسوخ، فإن عليه حينئذٍ المصير إلى الترجيح بينهما، فينظر في الدليلين المتعارضين ويعمل بوجوه الترجيح التي ذكرها أهل العلم، فما ترجح منهما وجب أخذه والعمل به؛ لأن العمل بالراجح متعين، ومن نظر في أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين ومن بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح. فإن تعذر عليه معرفة الراجح من المرجوح، فإن العلماء قد اختلفوا فيما يجب عليه، والذي يظهر من أقوالهم أن الدليلين يتساقطان ويطلب الحكم من غيرهما. وهذا الكلام المذكور يسري في جميع الأدلة التي يظهر منها التعارض، سواءٌ أكان الدليلان المتعارضان من الكتاب أو من السنة أو أحدهما من الكتاب والآخر من السنة. ما سبق ذكره هو الواجب عندما يعرض للإنسان دليلان يظهر منهما التعارض، وقد ذكرت هذه الطرق على سبيل الإيجاز والاختصار، وإلا فلأهل العلم فيها كلام طويل لا يناسب المقام ذكره، ومن أراده فعليه بالرجوع إلى مباحث التعارض والترجيح المذكورة في كتب أهل العلم خصوصاً ما كتبوه في مؤلفاتهم في أصول الفقه.
ثانياً: ذهب كثير من أهل العلم إلى جواز أن تكون السنة ناسخة للقرآن الكريم، سواء أكانت السنة متواترةً أو آحاداً، واستدلوا بأدلة عديدة، أهمها وأولاها: الوقوع، وهو أقوى أدلة الجواز عموماً. ومن أمثلة نسخ السنة المتواترة للقرآن الكريم ما تقدم ذكره، وهو نسخ عقوبة الزنا الواردة في القرآن الكريم بقوله عليه الصلاة والسلام:"خذوا عني ……وكذلك نسخ الوصية للوالدين والأقربين الواردة في القرآن الكريم بقوله عليه الصلاة والسلام:" لا وصية لوارث". ومن أمثلة نسخ السنة الآحادية للقرآن الكريم: قوله تعالى:" قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة" الآية، فإنها منسوخة بأن النبي عليه الصلاة والسلام:" نهى عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير " (رواه مسلم، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، رقم الحديث: 4994) ، وهو خبر آحاد.
ثالثاً: أما ما سألت عنه من جواز أن تضيف السنة حكما إضافيا لحكم ثابت بالقرآن؟ فهذه المسألة تكلم عنها أهل العلم في المباحث المتعلقة بالسنة وبحثوها تحت عنوان: استقلال السنة بالتشريع، أي: هل يجوز أن تثبت السنة أحكاماً غير ثابتة في القرآن؟ وهذه المسألة وقع فيها خلاف بين أهل العلم، حيث أجازه قوم ومنعه آخرون، والراجح - والله أعلم - هو الجواز، ويدل للجواز أدلة عديدة قوية، ومن أهمها:
1- عموم عصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الخطأ في التبليغ لكل ما جاء به عن الله تعالى، ومن ذلك ما روته السنة وسكت عنه الكتاب.
2- عموم آيات الكتاب الدالة على حجية السنة، فهي دالةٌ على حجيتها: سواءٌ أكانت مؤكدةً لما في الكتاب، أم مبينةً له، أم مستقلة.
3- الوقوع، فقد ثبتت أحكام كثيرة لم يكن لها ذكر في القرآن، وإنما كان مستندها السنة المستقلة عن القرآن، وأجمع المسلمون على مشروعيتها، ولو لم يكن هذا النوع من السنة محتجاً به لما ثبتت هذه الأحكام، ولما أجمع المسلمون عليها، ومن هذه الأحكام:
أ - ميراث الجدة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس (رواه أبو داود، كتاب: الفرائض، باب: في الجدة، رقم الحديث:2894، والترمذي، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الجدة، رقم الحديث: 2100، وقال ابن قدامة في المغني (9/54) :قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) .
ب - مشروعية الشفعة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم (متفق عليه، رواه البخاري، كتاب: الشفعة، باب: الشفعة فيما لم يقسم، رقم الحديث: (2257) ، ومسلم، كتاب: المساقاة والمزارعة، باب: الشفعة، رقم الحديث: (4128) .
ج - تحريم الجمع بين المرأة وعمتها في النكاح، فقد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه (متفق عليه، رواه البخاري، كتاب: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، رقم الحديث: (5110) ، ومسلم، كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، رقم الحديث: (3443) .
د - تحريم لحوم الحمر الأهلية، فقد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها (متفق عليه، رواه البخاري، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الحمر الإنسية، رقم الحديث: (5521) ، ومسلم، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، رقم الحديث: (5009) .
وغير ذلك من الأحكام التي ثبتت، وعمل بها المسلمون قديماً وحديثاً، وكان مستندهم في ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون لها ذكر في القرآن الكريم. ومن أراد الاستزادة حول موضوع استقلال السنة بالتشريع فعليه بكتاب: حجية السنة، للدكتور عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله- فقد جمع في كتابه هذا كلام أهل العلم في المسألة ووجهه بطريقة علمية متميزة. والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.