المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/أدلة الأحكام
التاريخ 12/05/1425هـ
السؤال
ما رأيكم فيمن يستخدم العقل في التعامل مع النصوص المترتبة على أحكام شرعية، على اعتبار أنه ليس كل ما نُقل قد وصل صحيحاً، وعملاً بمبدأ أخذ المعقول من المنقول؟ فإذا افترضنا أن هذا الشخص هو من أهل الذكر والعلم، ولكنه حين يقدم اجتهاده على شكل فتوى فإنه يستخدم مفتاحين لفتح خزانة الفتاوى، الأول هو: النص الشرعي، والثاني هو: العقل البشري، ولا يعتقد بإمكان فتح الخزنة إلا بهذين المفتاحين معاً، فما رأيكم في ذلك؟.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الأدلة الشرعية لا تنافي ما تقتضيه العقول السليمة، وهذا الأمر مقطوع به، والأدلة عليه كثيرة، ومن أهمها:
(1) أن الأدلة الشرعية لو جاءت على خلاف ما تقتضيه العقول لكان التكليف بمقتضاها تكليفاً بما لا يطاق، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره، بل يتصور خلافه ويصدقه.
(2) أن مناط التكليف هو العقل، ولذلك رفع التكليف عن فاقد العقل كالمجنون والمعتوه، ونحوهما، ولو جاءت الأدلة الشرعية على خلاف ما تقتضيه العقول لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المجنون والمعتوه، لأنه لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق، بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به.
(3) أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به، لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم-، فلو كانت على خلاف ما تقتضيه العقول لقالوا: إن هذا لا يعقل، لكنهم لم يقولوا شيئاً من ذلك، فدل على موافقتها للمعقول.
وإذا ثبت أن أدلة الشريعة وأحكامها جارية على ما يوافق العقول السليمة، فإنه لا يمكن ولا يتصور أن يقع تعارض أو تناقض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، لما سبق ذكره من ملاءمة الشريعة للعقول السليمة، وإذا حصل عند الإنسان تعارض بينهما فإن هذا التعارض إنما هو في نظر الإنسان، وليس في نفس الأمر وحقيقته والمقدم هنا هو النقل، لأن النقل الصحيح لا يعتريه ما يعتري العقل من الأهواء والآفات والأمراض.
ولأجل هذا فإن المرجع في استنباط الأحكام وتحرير الفتاوى والبحث في النواحي الشرعية هو النصوص الشرعية الصحيحة، سواء وافق ذلك عقولنا أم خالفها، لأننا في هذا المجال لا نبحث عن حكم عقولنا، وإنما نبحث عن حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم-، وطريق معرفة حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة.
ومما يؤيد هذا الأمر أن الأحكام الشرعية منها ما هو معقول المعنى وهو الكثير، ومنها ما ليس كذلك، بحيث لا يهتدي العقل إليها، بل يتلقاها المسلم بالقبول من غير أن يكون للعقل مدخل فيها، كأعداد الركعات في الصلوات، وأعداد الحصى في رمي الجمرات، والغسل من بول الجارية، والنضح من بول الغلام، ومسح أعلى الخف، وترك أسفله، وأشباه ذلك مما لا مجال للعقل فيه.
ولو جعلنا العقل حاكماً في المسائل الشرعية لما قبلنا هذا النوع من الأحكام؛ لأن العقل لا يهتدي إليها، ولا يفهم مما سبق ذكره أن الإسلام لا يجعل للعقل اعتباراً واهتماما، بل اهتم الإسلام بالعقل وأمر بإعماله في فهم سنن الله في الكون، وفي التدبر في أحكامه وشرائعه وآياته، ولذلك فإن كثيراً من الآيات تختم بما يدل على الاهتمام بالعقل نحو قوله: "أفلا تعقلون" [البقرة: 44] و"أفلا تتفكرون" [الأنعام: 50] ، ونحو ذلك، إلا أن الإسلام جعل للعقل حدوداً لا يتعداها ولا يقصر عنها، وهذه الحدود موضحة في نصوص الكتاب والسنة، والمجال لا يتسع لذكرها.
ومما تحسن الإشارة إليه أن أهل العلم بحثوا هذه المسألة وتكلموا عنها في كتبهم المختلفة، ومن أهم هذه المؤلفات وأحسنها: كتاب درء تعارض العقل مع النقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- وهو كتاب نادر وفريد في بابه، ينصح بالاطلاع عليه لمن أراد الاستزادة حول موضوع موافقة المعقول للمنقول.
والله الموفق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.